الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فِي ٱلْكِتَٰبِ فِي يَتَٰمَى ٱلنِّسَآءِ ٱلَّٰتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ وَٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلْوِلْدَٰنِ وَأَن تَقُومُواْ لِلْيَتَٰمَىٰ بِٱلْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ٱللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً }

أي: يستَخْبِرُونك في النِّسَاء.

قال الواحدي - رحمه الله -: الاستِفْتَاء: طَلَب الفَتْوَى، يقال: اسْتَفْتَيْتُ الرَّجل في المَسْألة؛ فأفْتَاني إفتاءاً وفُتْياً وفَتْوًى، [وهما] اسمْان وُضِعَا موضع الإفْتَاء، ويُقَال: أفْتَيْت فُلاناً في رؤيا رآهَا إذا عَبَّرها، قال - تعالى -:يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ } [يوسف: 46]، ومعنى: أفتنا: إظْهار المُشْكِل، وأصْلُه: من الفَتَى: وهو الشَّابُّ القَوِي، فالمعنى: كأنَّه يَقْوى بِفتيانِهِ، والمُشْكِل إذا زَالَ إشْكَالُه بِبيَانِهِ مَا أشْكِل، يصيرُ قويّاً فَتِيًّا.

واعلم: أنَّ عَادَة اللَّه فِي ترتيب هذا الكِتَابِ الكَرِيمِ، أنْ يَذكُر الأحْكَام، ثَمَّ يذْكُرُ عَقِيبه آياتِ الوَعدِ والوَعِيدِ، والتَّرغِيب والتَّرهيب، ويخلط بها آياتٍ دَالةً على كِبْرِياء اللَّه - تعالى - وجلالِ قُدْرَتِه، ثم يَعُود إلى بَيَان الأحْكَام، وهذا أحْسَن أنواع التَّرْتِيب، وأقوى تَأثِيراً في القُلُوب؛ لأن التَّكْلِيف بالأعْمَال الشَّاقَّةِ لا يقع مَوْقِعِ القُبُول، إلا إذا اقْتَرن بالوَعْد والوَعِيد، وذلك لا يُؤثِّر إلا عند القَطْع بِغَايَةِ كَمَال من صَدَر عنه الوَعْد والوَعِيد.

قوله [تعالى]: { قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } الآية اعلم: أن الاستِفْتَاء لا يقع عن ذَوات النِّساء، وإنَّما يقع عن حَالةٍ من أحْوَالِهِنّ، وصفة من صِفاتِهِن، وتلك الحَالَة غير مَذْكُورة في الآية، فكانت مُجْمَلة غير دَالَّة على الأمْر الذي وقع عَنْه الاستِفْتَاءِ.

فصل في سبب نزول الآية

قال القُرْطُبِي: هذه الآية نَزَلَت بسبب قَوْم من الصَّحَابة، سألوا عن أمر النِّسَاء وأحْكَامِهِن في المِيرَاث وغير ذَلِك، فأمَر اللَّه نبيَّه - عليه الصلاة والسلام - أن يَقُول لَهُم: { ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } أي: يبيِّن لكم حُكْم ما سَألْتُم عَنْه، وهذه الآيَة رُجوعٌ إلى ما افْتُتِحَتْ به السُّورة من أمْر النِّسَاءِ، وكانَ قد بَقِيتْ لهم أحْكَام لم يَعْرِفُوها، فسألوا؛ فقيل لهُم: [إن] الله يُفْتيكُم فيهنَّ.

[وروي عن مَالِكٍ قَالَ: كان رسُول الله صلى الله عليه وسلم يسأل فلا يُجيبُ حتى ينزل عليه الوحي، وذلك في كِتَاب الله: { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي ٱلنِّسَآءِ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ } ]وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ } [البقرة: 220]يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } [البقرة: 219]وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ } [طه: 105] ويَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ } [المائدة: 4].

" وما يُتْلى ": فيه سَبْعَة أوْجه، وذلك أن مَوْضع " ما " يحتمل أن يكُون رفعاً، أو نصباً، أو جراً، فالرَّفعُ من ثَلاَثة أوْجُه:

أحدها: أن يكون مرفوعاً، عَطْفاً على الضَّمِير المستكِنِّ في " يُفتيكم " العائد على الله - تعالى -، وجاز ذلك للفَصْل بالمَفْعُول والجَارِّ والمَجْرُور، مع أن الفَصْلَ بأحدهما كافٍ.

والثَّانِي: أنه مَعْطُوفٌ على لَفْظِ الجلالة فَقَطَ؛ ذكره أبو البقاء وغيرُه، وفيه نَظَر؛ لأنه: إمَّا أنْ يُجْعَلَ من عَطْف مفردٍ على مُفْردٍ، فكان يَجِبُ أن يُثَنَّى الخَبرُ، وإن توسَّط بين المُتَعَاطفين، فيقال: " يُفْتِيانِكُم " ، إلاَّ أنَّ ذلك لا يجُوز، ومَنِ ادَّعى جَوازَه، يَحْتاج إلى سَمَاع من العَرَب، فيقال: " زيد قَائِمَان وعَمْرو " ، ومثلُ هذا لا يجُوز، وإمَّا أن يُجْعَلَ من عَطْف الجُمَل، بمَعْنَى: أنَّ خبرَ الثَّاني محذوفٌ، أي: وما يُتْلَى عَلَيْكُم، يُفْتيكم، فيكون هذا هو الوَجْه الثَّالث - وقد ذكروه - فَيَلْزَم التَّكْرَار.

السابقالتالي
2 3 4 5 6