الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلْهُدَىٰ وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } * { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً }

تقدّم في آل عمران أن المُضَارعَ المَجْزُوم، والأمْرَ من نحو: " لم يَرْدُدْ " و " رَدَّ " يجُوزُ فيه الإدغامُ وتركُه، على تَفْصيلٍ في ذلك وما فيه من اللُّغَات وتقدم الكلام في المَشَاقَّةِ والشِّقَاقِ في البقرة، وكذلك حُكمُ الهَاء في قوله: " نُؤته " و " نُصْلِه ".

وهذه الآيَة [نَزَلَتْ] في طعمة بن أبَيْرِق، وذلك أنَّه لمَّا ظهرت عليه السَّرِقَةُ، خاف على نَفْسِهِ من قَطْع اليد والفضيحة، فهربَ مرتَدّاً إلى مَكَّة.

فقال - تعالى -: { وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ } أي: يُخَالِفُه، { مِن بَعد ما تَبَيَّنَ لَهُ ٱلهُدَى }: من التَّوحيد والحُدُودِ، { ويتَّبعْ غَيْر سَبِيلِ ٱلمُؤْمِنِين } أي: غير طَرِيق المُؤمِنِين، { [نولِّه ] مَا تَوَلَّى } أي: نَكِلُه [فِي الآخِرَة] إلى مَا تولَّى في الدُّنيا { وَنُصْلِه جَهَنَّم وَسآءَت مَصِيراً } فانْتَصب مَصِيراً على التَّمْيِيز؛ كقولهم: " فُلانٌ طَابَ نَفْساً ".

رُوِيَ أن طعمة نَزَل على رَجُل من بني سليم من أهْل مكَّة، يُقال له: الحجَّاج بْن علاط، فَنَقب [بَيْتَ الحَجَّاج، لِيَسْرِقَه،] فسقط عليه حَجَرٌ فلم يَسْتَطِع أن يَدْخُل، ولا أن يَخْرُج، فأخذ لِيُقْتَل، فقال بَعْضُهُم: دَعُوه، فقد لَجَأ إلَيْكُم، فتركوه، وأخْرَجُوه من مكة، فَخَرَج مع تُجَّار من قُضاعة نَحو الشَّام، فنزلوا مَنْزِلاً، فَسَرقَ بَعْضَ مَتَاعِهِم وهرب، فَطَلَبُوه، وأخَذُوه ورموه بالحِجَارة؛ حتَّى قتلوه، فَصَار قبره تِلْك الحِجَارة، وقيل: إنه رَكِبَ سفينةً إلى جدة، فسرق فيها كِيساً فيه دَنَانِير فأُخِذَ، وألْقِي في البَحْر، وقيل: إنه نزل في حَرَّة بني سَليم، وكان يَعْبُد صَنَماً لهم إلى أنْ مَاتَ، فأنزل الله - تعالى -: { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } أي: ذَهَب عن الطَّرِيق، وحُرِمَ الخَيْر كُلَّه.

وقال الضَّحَّاك عن ابْن عبَّاسٍ: إنَّ هذه الآيَة نَزَلت في شَيْخٍ من الأعْراب، جَاءَ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نَبِيَّ الله، إنِّي شيخٌ مُنْهَمِكٌ في الذُّنُوب، إلاَّ أني لَمْ أشْرِكْ باللَّه شيئاً منذ عَرَفْتُه وآمنت به، ولمْ أتَّخِذْ من دُونِه ولِيّاً، ولَمْ أواقع المَعَاصِي جُرْأة على اللَّه، وما توهَّمْت طَرْفَة عَيْن أنِّي أعجِزُ اللَّه هَرَباً، وإنِّي لَنَادِمٌ تَائِبٌ، مستغفرٌ، فما حالي؟ فأنزل اللَّه هذه الآية.

فصل في استدلال الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية على حجية الاجماع

رُوِيَ أن الشَّافِعِي - رضي الله عنه - سُئِلَ عن آيَة في كِتَاب اللَّه - تعالى - تدلُّ على أنَّ الإجْمَاع حجَّة، فقرأ القُرآن ثلاثمِائَة مرَّة، حتَّى وَجَد هذه الآيَة، وتقرير الاسْتِدْلال، أن اتِّباع غَيْر سَبِيل المُؤمِنين حَرَامٌ [فوجب أن يكُون اتِّباع سَبِيل المؤمنين وَاجِباً] بيان المقدِّمة الأولى: أنه - تعالى - ألحق الوَعِيد بمن يُشَاقِقُ الرَّسُول، ويتَّبع غير سَبِيل المُؤمنين، ولو لم يَكُن ذلك مُوجِباً، لكان ذلك ضمّاً لما لا أثَر لَهُ في الوَعِيد إلى مَا هُو مُسْتَقِلٌّ باقْتِضَاء ذَلِك الوَعِيد، وإنَّه غير جَائز، وإذا كان اتِّبَاعُ غير سَبيل المُؤمنين حَرَاماً، لزم أن يَكُون اتِّباع سَبيلِ المؤمنين وَاجباً، وإذا كان عَدَم اتِّبَاعهم حَرَاماً، كان اتِّباعُهُم وَاجباً، لأنَّه لا خُرُوجَ عن طَرفَي النَّقِيضِ.

السابقالتالي
2