قال القُرْطُبِي: ما بَعْد " لَوْلاَ " مرفوعٌ بالابْتِدَاء عند سِيبَويْه، والخَبَر مَحْذُوف لا يَظْهَر، والمَعْنَى: ولولا فَضْلُ اللَّه عَليكَ ورَحْمَتُه بأن نبَّهك على الحَقِّ، وقيل: بالنُّبُوءَة والعِصْمَة، { لَهَمَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ } عن الحق. قال شهاب الدين: في جواب " لولا " وجهان: أظهَرُهُمَا: أنه مَذْكُورٌ، وهو قوله: " لَهَمَّتْ ". والثاني: أنه مَحْذُوفٌ، أي: لأضلُّوك، ثم اسْتأنَفَ جُمْلة فقال: " لَهَمَّتْ " أي: لقد هَمَّتْ. قال أبو البقاء في هذا الوَجْه، ومثلُ حذفِ الجَوابِ هنا حَذْفُه في قوله:{ وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ ٱللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ } [النور: 10] وكأنَّ الذي قَدَّر الجوابَ مَحْذُوفاً، استشكل كَوْنَ قوله: " لهمتْ " جواباً؛ لأنَّ اللَّفْظ يقتضي انْتِفَاء هَمِّهم بذلك، والغرضُ: أنَّ الواقع كوْنُهم همُّوا على ما يُرْوَى في القصَّة؛ فلذلك قدَّره مَحْذُوفاً، والذي جَعَلَه مثبتاً، أجَابَ عن ذلك بأحَدِ وَجْهَيْن: إمَّا بتَخْصيص الهَمِّ، أي: لَهَمَّتْ هَمّاً يؤثِّر عندك. وإمَّا بتخصيص الإضْلال، أي: يُضِلُّوك عن دينك وشريعتك، وكلا هذيْن الهمَّيْن لم يقع. و " أَن يضلُّوك " على حَذْف الباء، أي: بأن يُضِلُّوك، ففي مَحَلِّها الخِلافُ المَشْهُور، و " مِنْ " في " مِنْ شَيء " زائدةٌ، و " شيء " يراد به المَصْدرُ، أي: وما يَضُرُّونك ضَرَراً قليلاً، ولا كثيراً. فصل هذا قول للنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ لَوْلا أن خَصَّكَ الله بالنُّبُوَّة والرَّحمة، " لهمت طائفة ": لقد هَمَّتْ طائفة، أي: أضْمَرَت طَائِفَة منهم، يعني: قَوْم طعمة، " أَن يضلوك " أي: يُخَطِّئُوك في الحُكْم، ويُلْبِسُوا عليك الأمْر؛ حَتَّى تدافع عن طعمة، { وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ } يعني: يرجع وَبالُهُ عليهم، { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } فيه وَجْهَان: الأوَّل: قال القفَّال - رحمه الله تعالى - وما يضُرُّونك في المُسْتَقْبل، فوعده - تعالى - بإدَامَة العِصْمَة لما يُرِيدُون من إيقَاعِه في البَاطِل. الثَّاني: المَعْنَى: أنَّهم وإنْ سَعوْا في إلْقَائك فأنْتَ ما وقَعْتَ في البَاطِل: لأنَّك بنيت الأمر على ظَاهِر الحَال، وأنت ما أمرت إلا بِبِنَاءِ الأحْكَام على الظَّاهِر. ثم قال: { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } وهذا مؤكد لذلك الوَعْد إن فَسَّرْنا قوله: { وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } بالوَعْد والعِصْمَة في المُسْتَقْبل، يعني: لما أنْزَل عليك الكتاب والحكمة، وأمر بِتَبْلِيغ الشَّريعة إلى الخَلْقِ، فكيف يَلِيقُ بحكمته ألاَّ يَعْصِمَك عن الوُقُوع في الشُّبُهَات، وإن فَسَّرْنا الآية بأنَّه - عليه الصلاة والسلام - كان مَعْذُوراً في بناء الحُكْم على الظَّاهر، كان المَعْنَى: وأنزل عليك الكتاب والحكمة، وأوْجَبَ فيها بِنَاء أحكام [الشَّرْع] على الظَّاهر، فكيف يَضُرُّك بناء الأمْر على الظَّاهِر. قال القُرْطُبِي: قوله [تعالى]: { وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة } ابْتِداء كلام.