في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان: الأوَّلُ: أنَّهُ تعالى لَمَّا بَيَّن الحكم في مال الأيتام وما على الأولياء فيه، بَيَّنَ في هذه الآية كيفية تملك الأيتام المال بالإرث. الثَّاني: أنَّهُ لَمَّا بين حكم الميراث مجملاً في قوله:{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ } [النساء:7] فذكر هنا تفصيل ذلك المجمل. فصل اعلم أنَّ الوراثة كانت في الجاهليَّةِ بالذُّكورة والقوّة، وكانوا يورثون الرِّجال دون النِّسَاء والصّبيان، فأبطل الله ذلك بقوله:{ لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ } [النساء: 7] الآية. وكانت أيضاً في الجاهليَّة وابتداء الإسلام بالمخالطة، قال تعالى:{ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } [النساء: 33]. ثم صارت الوراثة بالهجرة، قال تعالى:{ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ } [الأنفال: 72] فنسخ اللَّهُ ذلك كله بقوله:{ وَأْوْلُواْ ٱلأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ ٱللَّهِ } [الأنفال: 75] وصارت الوراثة بأحد الأمور الثَّلاثة: النّسب، أو النكاح، أو الولاء. وقيل: كانت الوراثة أيضاً بالتَّبنِّي، فإنَّ الرَّجل منهم كان يتبنَّى ابنَ غَيْره فَيُنْسَبُ إليه دون أبيه من النَّسب فيرثه، وهو نوع من المعاهدة المتقدِّمَةِ، وكذلك بالمؤاخَاةِ. وقال بعض العلماء: لم ينسخ شيء من ذلك بل قررهم اللَّهُ عليه فقوله:{ وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ ٱلْوَالِدَانِ وَٱلأَقْرَبُونَ } [النساء: 33] المراد التوارث بالنسب ثم قال:{ وَٱلَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } [النساء:33] [ ليس المراد منه النصيب من المال، بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة] والنصيحة وحسن العشرة. فصل: سبب نزول الآية " روى عطاء قال: استشهد سعدُ بْنُ الرَّبِيع النَّقيب، وترك ابنتين وامرأة وأخاً، فأخذ الأخ المال كُلَّهُ، فأتت المرأةُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول اللَّهِ هاتان ابنتا سَعْدٍ، وإن سعداً قتل، وأن عمهما أخذ مالهما، فقال عليه السَّلام: " ارجعي فَلَعَلَّ اللَّهَ سَيَقْضِي [فيه] " ثم إنها عادت إليه بعد مدة وبكت، فأنزل اللَّهُ هذه الآية، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمَّهما، وقال له: " أعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقي فَهُوَ لَكَ " فهذا أوَّلُ ميراث قُسِّمَ في الإسلام. وقال مقاتلٌ والكَلْبِيُّ: نزلت في أم كُحَّة امرأة أوس بْنِ ثَابتٍ وبناته. " وروى جابر قال: جاء رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعْقِلُ فتوضّأ فَصَبَّ عَلَيَّ من وضوئه فقلتُ: يا رسول الله لمن المِيرَاثُ، وَإنَّمَا يرثُنِي كَلاَلَةٌ " فنزلت آية الفرائض. فصل قال القَفَّالُ: قوله تعالى: { يُوصِيكُمُ ٱللَّهُ فِيۤ أَوْلاَدِكُمْ } أي: يقول لكم قولاً يوصلكم إلى إيفاءِ حقوق أولادكم بعد موتكم، وأصل الإيصاء هو الإيصَالُ يقال: وصى يصي إذا وَصَلَ، فإذا قيل: أوصاني، فمعناه: أوصلني إلى علم ما أحتاج إلى علمه، وكذلك وَصَّى وهو على المبالغة. وقال الزَّجَّاج: معنى قوله هاهنا { يُوصِيكُمُ } أي: يَفْرِضُ عليكم؛ لأنَّ الوصية مِنَ الله إيجابٌ لقوله بعد نَصِّه على المحرمات