الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً }

لما رَغَّبَ في الهِجْرَة، ذكر السَّبَب الذي يَمْنَع الإنْسَان من الهِجْرَة ثم أجَابَ عَنه، وذلك المَانِعُ أمْرَان:

الأوّل: أن يكون في وَطَنِه في راحةٍ وَرَفَاهِية فيظن لأنه بِمفَارَقَتِه للوَطَن يقع في الشِّدَّة وضيق العَيْش، فأجاب اللَّه عن ذلك بقوله: { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً }.

قال القرطبي: قوله: { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } شرط، وجَوَابُه: { يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ }.

واشتِقاق المُرَاغَم من الرغَام وهو التُّرَاب؛ يقولون: رغم أنفه، ويريدون أنه وَصَل إلى شَيْء يَكْرَهُه؛ لأن الأنْفَ عضو في غاية العِزَّة، والتُّرَاب في غاية الذِّلَّة، فجعلوا قولهم: رغم أنْفه كنَايَةً عن الذُّلِّ، إذا عرف هذا، [فنقول] المشهُور أن هذه المُرَاغَمة إنِّما حصلَت بسبَب فراقهِم، وخُرُوجهم عن دِيَارهم، وعن ابن عبَّاس: " مُرَاغماً " [أي]: مُتَحَوِّلاً [يتحوَّلُ إليه].

وقال مُجَاهد: متَزَحْزحاً عما يكْره، سُمِّيت المهاجرة مُرَاغَمَة؛ لأن من يَهَاَجر يراغم قَوْمَه؛ لأنه لا يجد ذلك [البَلَد] من النِّعْمَة والخَيْر، ما يكون سَبَباً لرغم أنْفِ أعْدَائِه الَّذِين كَانُوا معه في بلدته الأصْلِيّة، فإنه إذا اسْتَقَام حَالهُ في تِلْكَ البَلَد الأجْنَبِيَّة، وَوَصَل خَبَرُه إلى أهْل بَلدتهِ، خجلوا من سُوءِ معامَلَتِهم له، ورغمت أنُوفُهم بذلك وهَذَا أوْلى الوُجُوه.

وأمَّا المَانِعِ الثاني عن الهجرة: فهو أن الإنْسَان يَقُول: إن خَرَجْت عن بَلَدي لطلب هذا الغَرَضِ، فربما وَصَلْتُ إليه، وربَّما لم أصِلْ إليه، فالأولى ألاَّ أُضِيعَ الرَّفَاهِيَة الحَاضَرة بسبب طَلَبِ شَيء قد يَحْصُل، فأجَابَ الله - تعالى - عن ذَلِك بقوله: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ }.

والمراد بـ " السِّعَة ": سعة الرِّزْق، وقيل: سَعَة من الضَّلال إلى الهُدَى.

قوله - تعالى -: { وَمَن يَخْرُجْ [مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } ].

روي أنه لما نَزَلت هذه الآيَةِ، سَمِعَها رجلٌ من بَنِي لَيْث شَيْخٌ كبير مَرِيضٌ يقال له: جُنْدَعُ بن ضَمْرة، فقال: واللَّه ما أنَا ممَّن استَثْنَى الله - عز وجل -، وإني لأجِدُ حِيلَة، ولي من المَالِ ما يُبَلِّغُنِي المَدِينَةَ وأبعد مِنْهَا، واللَّه لا أبِيتُ اللَّيلة بمكَّة، أخرِجُوني، فخرجوا به يَحْمِلُونه على سَرير حتى أتَوْا به التَّنْعِيم، فأدركه المَوْتُ، فصفَّق بيمِينِه على شِمَالِه، فقال: اللَّهُم هذه لك وهذه لِرَسُولِك، أبَايعُك على ما بَايَعَك عليه رَسُولكُ، فمات فَبَلَغ خَبَرُه أصْحَاب رسُول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: لو وَافَى المَدِينَة لكان أتمَّ أجْراً. وضَحِكَ المُشْرِكُون وقالوا: ما أدْرَك هذا ما طَلَب، فأنْزَلَ الله - تعالى -: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ [فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ } ] أي: قبل بُلُوغه إلى مهاجره، " فقد وقع أجْرُه على اللَّه ".

السابقالتالي
2 3 4 5