ولما ذكر الله تعالى هذه الفوائد الكثيرة في هذه المطالب بين أن هذه البيانات بلغت حدّ الكمال والتمام فقال: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } يتعظون، قالت المعتزلة: دلت الآية على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة، ودلت أيضاً على أنه تعالى يريد الإيمان والمعرفة من الكلّ؛ لأن قوله: { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ } مشعِر بالتعليل، وقوله في آخر الآية: { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } مشعر بالتعليل أيضاً ومشعر بأن المراد من ضرب هذه الأمثال حصولُ التذكرة والعلم. قوله: " قُرْآناً عَرَبِيّاً " فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: (أن يكون منصوباً على المدح؛ لأنه لما كان نكرةً امتنع إتباعه للقرآن. الثاني: أن ينتصب بـ " يتذكرون " أي) يتذكرون قرآناً. الثالث: أن ينتصب على الحال من " القرآن " على أنها حال مؤكدة وتسمى حالاً موطّئة؛ لأن الحال في الحقيقة " عربياً " ، و " قُرْآناً " توطئه له، نحو: جاء زيد رجلاً صالحاً، وقوله: { غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } نعت " لقُرْآناً " ، أو حال أُخْرَى. قال الزمخشري: فإن قلت: فهلا قيل مستقيماً أو غير مُعْوَجٍّ؟ قلتُ: فيه فائدتان: إحداهما: نفي أن يكون فيه عِوَجٌ قط كما قال:{ وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } [الكهف:1]. والثانية: أن العِوَج يختص بالمعاني دون الأعيان وقيل: المراد بالعِوَج الشك واللَّبْس وأنْشَدَ:
4298- وَقَدْ أتَاكَ يقينٌ غَيْرُ ذِي عِوَجٍ
مِنَ الإلهِ وَقَوْلٌ غَيْرُ مَكْذُوبِ
فصل اعلم أنه تعالى وصف القرآن بصفات ثلاثة: أولها: كونه قرآناً، والمراد كونه مَتْلُوًّا في المحاريب إلى قيام الساعة. وثانيها: كونه عربياً أي أنه أعجز الفصحاءَ والبلغاءَ عن معارضته كما قال:{ قُل لَّئِنِ ٱجْتَمَعَتِ ٱلإِنْسُ وَٱلْجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [الإسراء:88]. وثالثها: كونه غيرَ ذي عِوجٍ، والمراد براءته من التناقض، قال ابن عباس: غير مختلف، وقال مجاهد: غير ذي لَبْس وقال السدي: غير مخلوق، ويروى ذك عن مالك بن أَنَسٍ، وحكى سفيان بن عيينة عن سبعين من التابعين أن القرآن ليس بخالقٍ ولا مخلوق. قوله: " لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ " الكفر والتكذيب به. وتمسك المعتزلة به في تعليل أحكام الله تعالى، وقوله في الآية الأولى: { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } ، وههنا: " لعلهم يتقون " لأن التذكر يتقدم على الاتّقاء والاحتراز. والله أعلم. قوله تعالى: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً رَّجُلاً } قال الكسائي: نصب " رجلاً " لأنه تفسير للمَثَل. واعلم أنه تَعَالَى لما شرح وعيد الكفار مَثَّلَ بما يدل على فساد مذهبهم وقُبْحِ طريقتهم، فقال: { ضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلاً }. قوله: " فِيهِ شُرَكَآءُ " يجوز أن يكون هذا جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب صفة " لِرَجُلٍ " ويجوز أن يكون الوصف الجار وحده، و " شُرَكَاءُ " فاعل به، وهو أولى لقربه من المُفْرد، و " مُتَشَاكِسُونَ " صفة " لشُركَاءُ " والتَّشاكُسُ (التخالف، وأصله سوء الخُلُق وعُسْرُه، وهو سبب التخالفِ، والتشاجرِ، ويقال: التَّشَاكُسُ) والتَّشَاخُسُ - بالخاء - موضع الكاف، وقد تقدم الكلام على نصب المَثَل وما بعده الواقعين بعد ضَرَبَ.