الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } * { فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ }

في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه:

الأول: أن المرادَ منه: الجواب عن شبهةٍ أخْرَى من شُبَهِ اليهود في إنكار نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وذلك لأنه صلى الله عليه وسلم لمَّا حُوِّل إلى الكعبةِ، طَعَنَ اليهودُ في نبوَّتِهِ، وقالوا: إنَّ بيتَ المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال؛ لأنه وُضِع قبل الكعبة، وهو أرضُ المحشَر، وقبلةُ جُملة الأنبياء، وإذا كان كذلك فتحويل القبلةِ منه إلى الكعبة باطل، وأجابهم الله بقوله: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ } هو الكعبة، فكان جَعْلُه قِبْلَةً أوْلَى.

الثاني: أن المقصود من الآيةِ المتقدمةِ بيان النسخ، هل يجوز أم لا؟ واستدلَّ - عليه السلام - على جوازه، بأن الأطعمة كانت مُباحةً لبني إسرائيلَ، ثم إن الله تعالى حرَّم بعضَها، والقوم نازعوه فيه، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم نسخه هو القبلة، فذكر الله - في هذه الآيات - بيان ما لأجله حُوِّلَت القبلة إلى الكعبة، وهو كَوْنُ الكعبة أفضلَ من غيرها.

الثالث: أنه - تعالى - لما قال في الآية المتقدمةِ:فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } [آل عمران: 95]، وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيمَ الحَجُّ - ذكر في هذه الآية فضل البيت؛ ليُفَرِّعَ عليه إيجابَ الحَجِّ.

الرابع: أنه لما تقدَّم مناظرة اليهود والنصارى، وزعموا أنهم على ملة إبراهيم، فبيّن الله كذبهم في هذه الآية من حيث إن حَجَّ الكعبةِ كان ملةَ إبراهيمَ، وهم لا يَحُجُّون، فدل ذلك على كذِبهم.

قوله: { وُضِعَ لِلنَّاسِ } هذه الجملة في موضع خفض؛ صفة لـ " بَيْتٍ ".

وقرأ العامة " وُضِعَ " مبنيًّا للمفعول. وعكرمة وابن السميفع " وضَعَ " مبنيًّا للفاعل.

وفي فاعله قولان:

أحدهما: - وهو الأظهر - أنه ضمير إبراهيم؛ لتقدُّم ذِكْرِه؛ ولأنه مشهور بعمارته.

والثاني: أنه ضمير الباري تعالى، و " لِلنَّاسٍ " متعلق بالفعل قبله، واللام فيه للعلة.

و " للذي " بِبَكَّة " خبر " إنَّ " وأخبر - هنا - بالمعرفة - وهو الموصول - عن النكرة - وهو " أول بَيْتٍ " - لتخصيص النكرة بشيئين: الإضافة، والوصف بالجملة بعده، وهو جائز في باب " إن " ، ومن عبارة سيبويه: إن قريباً منك زيدٌ، لما تخصص " قريباً " بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرناه، وزاده حُسْناً - هنا - كونه اسماً لـ " إنَّ " ، وقد جاءت النكرة اسماً لـ " إنَّ " - وإن لم يكن تخصيص - كقوله: [الطويل]
1538- وَإنَّ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً   بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الخَضَارِمِ
وببكة صلة، و الباء فيه ظرفية، أي: في مكة.

وبكة فيها أربعة أوجه:

أحدها: أنها مرادفة لـ " مكة " فأبدلت ميمها باءً، قالوا: والعرب تُعَاقِب بين الباء والميم في مواضع، قالوا: هذا على ضربة لازم، ولازب، وهذا أمر راتب، وراتم، والنبيط والنميط وسبد رأسه وسمَدَها، وأغبطت الحمى، وأغمطت.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد