الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }

الجمهور يجعلون الهمزة مقدَّمةً على الفاء، للزومها الصدر، والزمخشري يقرها على حالها، ويُقدِّر محذوفاً قبلها، وهنا جوَّز وجهين:

أحدهما: أن تكون الفاء عاطفةً جملة على جملة، والمعنى: فأولئك هم الفاسقون، فغير دين الله يبغون، ثم توسطت الهمزة بينهما.

والثاني: أن تعطف على محذوف، تقديره أيتولون، فغير دين الله يبغون؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث، وهو استفهام استنكار، وقدم المفعول - الذي هو " غير " - على فعله؛ لأنه أهم من حيث أن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - مُتَوَجِّه إلى المعبود الباطل، هذا كلام الزمخشريِّ.

قال أبو حيان: " ولا تحقيق فيه؛ لأن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - لا يتوجه إلى الذوات، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء، الذي متعلقه غير دين الله، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع، ولشبه " يبغون " بالفاصلة، فأخَّرَ الفعلُ ".

وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم " يَبْغُونَ " من تحت - نسقاً على قوله:هُمُ ٱلْفَاسِقُونَ } [آل عمران: 82] والباقون بتاء الخطاب، التفاتاً لقوله:لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } [آل عمران: 81] ولقوله:ءَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ } [آل عمران: 81].

وأيضاً فلا يبعد أن يُقال للمسلم والكافر، ولكل أحد: أفغير دين الله تبغون مع علمكم أنه أسلم له مَنْ في السموات والأرض وأن مَرْجعكم إليه؟ ونظيره قوله:وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } [آل عمران: 101].

قال ابن الخطيب: ذكر المفسّرون في سبب النزولِ أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادَّعَى كلّ واحدٍ من الفريقين أنه على دين إبراهيم، فقال صلى الله عليه وسلم " كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ إبْرَاهِيمَ، فَغَضِبُوا وقالوا: والله لا نَرْضَى بقضائِك، ولا نأخذ بِدِينِكَ " ، فنزل قوله: { أَفَغَيْرَ دِينِ ٱللَّهِ يَبْغُونَ }.

قال ابن الخطيب: ويبعد عندي حَمْلُ هذه الآيةِ على هذا السبب؛ لأن على هذا التقدير - الآية منقطعة عما قبلها، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلُّقَها بما قبلها، وإنما الوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكوراً في كُتُبِهِم، وهم كانوا عارفين بذلك، وعالمين بصِدق محمد صلى الله عليه وسلم في النبوة، فلم يبق كفرهم إلا مجردَ عنادٍ وحَسَدٍ وعداوةٍ، فصاروا كإبليس حين دعاه الحسدُ إلى الكُفر، فأعلمهم - تعالى - أنهم متى كانوا كذلك كانوا طالبين ديناً غير دين اللهِ - تعالى - ثم بيَّن لهم أن التمرُّدَ على الله، والإعراضَ عن حكمه مما لا يليق بالعقل، فقال: { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ }.

قوله: " وله أسلم من في السموات " جملةٌ حاليةٌ، أي: كيف يبغون غير دينه، والحال هذه، وفي قوله: " طوعاً وكرهاً " وجهان:

أحدهما: أنهما مصدران في موضع الحال، والتقدير: طائعين وكارهين.

السابقالتالي
2