الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ آمِنُواْ بِٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ عَلَى ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ ٱلنَّهَارِ وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }

حكي عنهم التلبيسُ، فذكر منه هذا النوع.

قوله: { وَجْهَ ٱلنَّهَارِ } منصوب على الظرف؛ لأنه بمعنى: أول النهار؛ لأن الوجه - في اللغة - مستقبل كل شيء؛ لأنه أول ما يواجَه منه، كما يقال - لأول الثوب -: وجه الثوب.

روى ثَعْلَبٌ عن ابن الأعرابي: أتيته بوجه نهارٍ، وصدر نهار، وشباب نهار، أي: أوله وقال الربيع بن زياد العبسي: [الكامل]
1509- مَنْ كَانَ مَسْرُوراً بِمَقْتَلِ مَالِكٍ   فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ
أي: بأوله، وفي ناصب هذا الظرف وجهان:

أظهرهما: أنه فعل الأحمر من قوله { آمَنُواْ } أي: أوْقَعُوا إيمانَكم في أول النهار، وأوقعوا كُفْرَكم في آخره.

والثاني: أنه { وَأَنْزَلَ } أي: آمنوا بالمُنَزَّل في أول النهار، وليس ذلك بظاهر، بدليل المقابلة في قوله: { وَٱكْفُرُوۤاْ آخِرَهُ }. فإن الضميرَ يعودُ على النهارِ، ومن جوَّز الوجه الثاني جعل الضمير يعود على { ٱلَّذِيۤ أُنْزِلَ } ، أي: واكفروا آخر المنزَّل، وأسباب النزول تُخالف هذا التأويل وفي هذا البيتِ الذي أنشدناه فائدةٌ، وذلك أنه من قصيدة يرثي بها مالك بن زهير بن خُزَيْمَةَ العبسي، وبعده: [الكامل]
1510- يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ   يَبْكِينَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأسْحَارِ
قَدْ كُنَّ يَخْبَأنَ الْوُجُوهَ تَسَتُّراً   فَالْيَوْمَ حِينَ بَدَوْنَ لِلنُّظَّارِ
يَخْمِشْنَ حرَّاتِ الْوُجُوهِ عَلَى امرئٍ   سَهْلِ الْخَلِيقَةِ طَيِّبِ الأخْبَارِ
ومعنى الأبيات يحتاج إلى معرفةِ اصطلاح العربِ في ذلك، وهو أنهم كانوا إذا قُتِلَ لهم قتيلٌ لا تقوم عليه نائحةٌ ولا تَنْدُبُه نادبةٌ، حتى يؤخذَ بثأره، فقال هذا: من سرَّه قَتْلُ مالك، فليأتِ في أول النهارِ يجدنا قد أخذْنَا بثأره، فذكر اللازم للشيء، وهو من باب الكناية.

وحكي أن الشيباني سأل الأصمعي: كيف تنشد قول الربيع:..... حين بدأنَ، أو بدَيْنَ؟ فقال الأصمعيّ: بَدأنَ، فقال: أخطأت، فقال: بَدَيْنَ، فقال: أخطأتَ، فغضب الأصمعيُّ، وكان الصواب أن يقول: بدَوْنَ - بالواو - لأنه من باب: بدا يَبْدو، أي: ظهر - فأتى الأصمعي يوماً للشيباني، وقال له: كيف تُصَغِّر مُخْتَاراً؟ فقال: مُخَيتير، فضَحِك منه، وصفَّق بيديه، وشَنَّع عليه في حلقته، وكان الصواب أن يقولَ: مُخَيِّر - بتشديد الياء - وذلك أنه اجتمع زائدان -، الميم والتاء - والميم أولى بالبقاء؛ لعلة ذكرها التصريفيُّون، فأبقاها، وحذف التاء، وأتى بياء التصغير، فقلب - لأجلها - الألف ياءً، وأدْغمها فيها، فصار: مُخَيِّراً - كما ترى - وهو يحتمل أن يكون اسمَ فاعل، أو اسمَ مفعول - كما كان يحتملها مُكَبَّرهُ، وهذا - أيضاً - يلبس باسم الفاعل خَيَّر فهو مُخَيِّر، والقرائنُ تبينه.

ومفعول { يَرْجِعُونَ } محذوف - أيضاً - اقتصاراً - أي: لعلهم يكونون من أهل الرجوع، أو اختصاراً أي: يرجعون إلى دينكم وما أنتم عليه.

فصل

قال القرطبيُّ: والطائفة: الجماعة - من طاف يطوفُ - وقد يُسْتَعْمَل للواحد على معنى: نفس طائفة، ومعنى الآية يحتمل أن يكون المراد كلَّ ما أنزل، وأن يكون بعضَ ما أنزل أما الأول ففيه وجوهٌ:

الأول: أن اليهودَ والنصارَى استخرجوا حيلةً في تشكيك ضَعَفَةِ المسلمين في صحة الإسلام، وهي أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد صلى الله عليه وسلم من الشرائع في بعض الأوقات، ثم يُظهروا بعد ذلك تكذيبه فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب قالوا: هذا التكذيب ليس لأجل الحَسَدِ والعناد، وإلا لَمَا آمَنُوا في أول الأمر، فإذا لم يكن حَسَداً، وجب أن يكون لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكَّروا في أمره، واستَقْصَوْا في البحث عن دلائل نبوتِهِ، فلاح لهم - بعد ذلك التأمل التام، والبحثَ الوافي - أنه كذاب، فيصير هذا الطريق شبهة لضَعَفةِ المسلمين في صحة نبوته.

السابقالتالي
2