الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ ٱلْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

هذا أيضاً من جملة أذاهم؛ لأنهم يفرحون بما أتَوْا به من أنواع الخُبْث والتلبيس على ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِين ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِأنَّهُم أهلُ البِرِّ والصدقة والتقوَى، ولا شك أن الإنسانَ يتأذَّى بمشاهدة مثل هذه الأحْوالِ، فأمر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بالمصابرة عليها.

قوله: و { لاَ تَحْسَبَنَّ } قرأ ابنُ كثير وأبو عمر " يَحْسَبَنَّ " و " فَلاَ يَحْسَبَنَّهُمْ " - بالياء فيهما، ورفع ياء " تَحْسَبَنَّهُم " وقرأ الكوفيونَ بتاءِ الخطابِ، وفتح الباء فيهما معاً، ونافع وابن عامر بياء الغيبة في الأول، وتاء الخطاب في الثاني، وفتح الباء فيهما معاً، وقُرِئَ شاذاً بتاء الخطاب وضَمِّ الباء فيهما معاً، وقرئ فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما، وفتح الباء فيهما أيضاً فهذه خَمْس قراءاتٍ، فأما قراءة ابن كثيرٍ وأبي عمرو ففيها خمسةُ أوجهٍ، وذلك: لأنه لا يخلو إما أن يُجْعَل الفعل الأول مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ، أو إلى الموصولِ، فإنْ جعلناه مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ، الرسول صلى الله عليه وسلم أو غيره - ففي المسألة وجهانِ:

أحدهما: أنَّ " الَّذِينَ " مفعول أوّل، والثاني محذوفٌ؛ لدلالة المفعول الثاني للفعل الذي بعده عليه، وهو " بِمَفَازَةٍ " والتقدير: لا يحسبن الرسول - أو حاسب - الذين يفرحون بمفازة، فأسند الفعل الثاني لضميرِ " الَّذِينَ " ومفعولاه الضمير المنصوب، و " بِمَفاَزَةٍ ".

الثاني: أن " الَّذِينَ " مفعول أول - أيضاً - ومفعوله الثاني هو " بِمَفَازَةٍ " الملفوظ به بعد الفعل الثاني، ومفعول الفعل الثاني محذوف؛ لدلالة مفعول الأول عليه، والتقدير: لا يحسبن الرسول الذين يفرحون بمفازة فلا يحسبنهم كذلك، والعمل كما تقدم، وهذا بعيد جِداً، للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول بكلامٍ طويلٍ من غير حاجةٍ، والفاء - على هذين الوجهين - عاطفة؛ والسببية فيها ظاهرة.

وإن جعلناه مسنداً إلى الموصول ففيه ثلاثة أوجهٍ:

أولها: أن الفعل الأول حُذِفَ مفعولاه، اختصاراً؛ لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما، تقديره: ولا يحسبن الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يحسبنهم فائزين.

كقول الآخر: [الطويل]
1708- بأيِّ كِتَابٍ، أمّ بِأيَّةِ سُنَّةٍ   تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وَتحْسَبُ
أي: وتحسب حبهم عاراً، فحذفت مفعولي الفعل الثاني؛ لدلالة مفعولي الأول عليهما، وهو عكس الآيةِ الكريمةِ، حيث حذف فيها من الفعلِ الأولِ.

ثانيها: أن الفعل الأول لم يحتج إلى مفعولين هنا.

قال أبو علي " تَحْسَبَنَّ " لم يقع على شيء و " الَّذيِنَ " رفع به، وقد تجيء هذه الأفعال لَغْواً، لا في حُكْمِ الجُمَل المفيدة، نحو قوله: [الطويل]
1709- وَمَا خِلْتُ أبْقَى بِيْنَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ   عِرَاضُ الْمَذَاكِي المُسْنِفَاتِ الْقَلاَئِصا
المذاكي: الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان، الواحد: مُذَك مثل المُخْلف من الإبل وفي المثل: جريُ المذكيات غِلاب.

السابقالتالي
2 3 4