لمَّا حرَّضهم على بذل النفس في الجهاد - فيما تقدم - حرضهم على بذل المال في الجهاد، وبيَّن الوعيد لمن يبخل. قرأ حمزة بالخطاب في " تَحْسَبَنَّ " والباقون بالغيبة فأما قراءة حمزة فـ " الّذِينَ " مفعول أول، و " خَيْراً " هو المفعول الثّاني، ولا بد من حَذْف مضَاف؛ ليصدقَ الخبرُ على المبتدأ، وتقديره: ولا تحسبن بُخْل الّذين يبخلون. قال أبو البقاء: " وهو ضَعِيفٌ؛ لأن فيه إضمار البخلِ قبل ذِكْر ما يدل عليه ". وفيه نظر؛ لأن دلالة المحذوفِ قد تكون متقدمةً، وقد تكون متأخرة، وليس هذا من بابِ الإضمارِ في شيءٍ، حتَّى يشترطَ فيه تقدُّم ما يدل على ذلك الضمير. و " هو " فيه وجهانِ: الأول: أنه فَصل بين مفعولي " يَحْسَبَنَّ ". والثاني - قاله أبو البقاء -: أنه توكيدٌ، وهو خطأٌ؛ لأنَّ المضمَرَ لا يؤكِّد المظهر. والمفعولُ الأولُ اسم مظهرٌ، ولكنه حُذِف - كما تقدم - وبعضُهم يُعَبِّر عنه، فيقول: أُضْمِر المفعولُ الأولُ - يعني حذف فلا يعبر عنه بهذه العبارة. و " هو " - في هذه المسألة - تتعينُ فصيلتُه لأنه لا يخلو إمّا أن يكونَ مبتدأً، أو بدلاً، أو توكيداً، والأول مُنْتَفٍ؛ لنَصْب ما بعده - وهو خير - وكذلك الثاني؛ لأنه كان يلزمُ أن يوافقَ ما قبله في الإعراب، فكان ينبغي أن يقال: إياه، لا " هُوَ " وكذلك الثالثُ - كما تقدم. أما قراءة الجماعة، فيجوز أن يكونَ الفعلُ مُسْنَداً إلى ضميرِ غائبٍ - إما الرسولُ، أو حاسب ما - ويجوز أن يكونَ مسنداً إلى الذين فإن كان مسنداً إلى ضمير غائب، فـ " الذِينَ " مفعول أولٌ، على حذف مضافٍ، ما تقدّم في قراءة حمزة، أي: بُخْل الذين، والتقدير: ولا يحسبنَّ الرسولُ - أو أحد - بُخْلَ الذين يبخلون خيراً لأنفسهم. و " هُوَ " فَصْل - كما تقدم - فتتحد القراءتان معنى وتخريجاً. وإن كان مسنداً إلى " الذِينَ " ففي المفعول الأول وجهان: أحدهما: أنه محذوف؛ لدلالة " يَبْخَلُونَ " عليه، كأنه قيل: ولا يحسبن الباخلون بُخْلَهم هو خيراً لهم و " هو " فَصْل. قال ابن عطية: ودل على هذا البخل " يَبْخَلُونَ " كما دَلَّ " السَّفيه " على السَّفهِ في قول الشاعر:
1701- إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ
وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إلى خِلاَفِ
أي: جرى إلى السفه. قال أبو حيّان: وليست الدلالةُ فيهما سواء، لوجهين: أحدهما: أن الدالَّ في الآية هو الفعلُ، وفي البيتِ هُوَ اسم الفاعِل، ودلالةُ الفعلِ على المصدرِ أقوى من دلالة اسم الفاعل، ولذلك كَثر إضمار المصدرِ؛ لدلالة الفعل عليه - في القرآن وكلام العربِ - ولم يؤثر دلالةُ اسم الفاعل على المصدر، إنما جاء في هذا البيتِ، أو في غيره أن وُجد أن في الآية حَذفاً لظاهرٍ؛ إذ قدَّروا المحذوف " بخلهم " وأما فهو إضمارٌ لا حذفٌ.