الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا ٱللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

إنما ثُنّي " الْجَمْعَان " - وإن كان اسم جمع - وقد نَصَّ النُّحَاةُ على أنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع إلا شذوذاً- لأنه أريد به النوع؛ فإن المعنى جَمْع المؤمنين وجَمْع المشركين، فلما أريد به ذلك ثُنِّي، كقوله: [الطويل]
1672- وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وَإنْ هُمَا   تَعَاطَى الْقَنَا قَوْماً هُمَا أخَوَانِ
فصل

{ تَوَلَّوْاْ } انهزموا { يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ } جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أُحُدٍ، وكان قد انهزم أكْثَرُ المسلمين، ولم يَبْقَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا ثلاثةَ عشر رجلاً، ستةٌ من المهاجرين: أبُو بَكْرٍ، وأبو عُبَيْدَةَ بن الجراح وعليٌّ، وطَلْحَة، وعبد الرحمن بن عَوْفٍ، وسعد بن أبي وَقَّاصٍ - وسبعة من الأنصار - حباب بن المنذر وأبو دُجَانَة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصِّمَّة، وسهل بن حُنَيْف، وأسَيْد بن حُضَيْر، وسعد بن مُعَاذٍ- وقيل: أرْبَعَةَ عشَرَ؛ سبعةٌ من المهاجرين، فذكر الزبير بن العوّام معهم، وسبعةٌ من الأنصار.

وقيل: إن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذٍ على الموت: ثلاثة من المهاجرين: طلحة، والزبير، وعلي، وخمسة من الأنصار: أبو دُجَانة، والحارث بن الصِّمَّة، وحباب بن المُنْذِرِ، وعاصم بن ثابتٍ، وسهل بن حنيف، ثم لم يقتل منهم أحد.

ورُوي أنه أصيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو ثلاثينَ، كلهم يجيء، ويَجْثو بين يديه، ويقول: وجهي لوجهك الفداء، ونفسي لنفسك الفداء، وعليك السَّلامُ غيرَ مُودَّعٍ.

قوله: { إِنَّمَا ٱسْتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيْطَانُ } السين في { ٱسْتَزَلَّهُمُ } للطلب، والظاهر أن استفعل ها هنا - بمعنى أفْعَل؛ لأن القصة تدلُّ عليه، فالمعنى: حَمَلَه على الزلة، فيكون كـ " اسْتَلَّ " و " أبَلَّ ". و " أزَلَّ " واستزلَّ بمعنى وَاحِدٍ، قال تعالى:فَأَزَلَّهُمَا ٱلشَّيْطَانُ } [البقرة: 36].

وقال ابن قتيبةَ: { ٱسْتَزَلَّهُمُ } طلب زلَّتَهُمْ، كما يقال: استعجلته: أي: طلبت عجلته، واستعملته طلبت عمله.

فصل

قال الكعبيُّ: الآية تدلُّ على أن المعاصيَ لا تُنْسَب إلى الله؛ فإنه -تعالى- نسبها هنا إلى الشِّيْطَانِ، فهو كقوله تعالى - حكاية عن موسى -:هَـٰذَا مِنْ عَمَلِ ٱلشَّيْطَانِ } [القصص: 15] وكقوله - حكاية عن يُوسفَ -:مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ ٱلشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِيۤ } [يوسف: 100] وقوله - حكاية عن صاحب موسى -:وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ ٱلشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ } [الكهف: 63].

قوله: { بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } فيه وجهانِ:

الأول: أن الباء للإلصاق، كقولك: كتبت بالقَلَم، وقطعت بالسِّكِّين، والمعنى: أنه قد صدرت عنهم جنايات، فبواسطتها قدر الشيطان على استزلالهم، وعلى هذا التقدير اختلفوا:

فقال الزَّجَّاجُ: إنهم لم يتولَّوْا عناداً، ولا فراراً من الزَّحْف، رغبة منهم في الدنيا، وإنما ذكَّرهم الشيطانُ ذنوباً - كانت لهم - فكرهوا البقاء إلا على حالٍ يَرْضَوْنَهَا.

وقيل: لما أذنبوا - بمفارقة المركز، أو برغبتهم في الغنيمة، أو بفشلهم عن الجهاد - أزلَّهم الشيطانُ بهذه المعصيةِ، وأوقعهم في الهزيمة.

السابقالتالي
2