الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّىٰ إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ ٱلآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَٱللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ }

صَدَقَ يتعدى لاثنين، أحدهما بنفسه، والآخر بالحرفِ، وقد يُحْذَف، كهذه الآية.

والتقدير: صدقكم في وعده، كقولهم: صَدقتُه في الحديث وصدقته الحديث و { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } معمول لِـ " صَدَقَكُمْ " أي: صدقكم في ذلك الوقتِ، وهو وقتُ حَسِّهِم، أي: قَتْلهم.

وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله: " وَعْدَه " - وفيه نظرٌ؛ لأن الوعد متقدِّمٌ على هذا الوقت.

يقال: حَسَسْتُه، أحَسُّه، وقرأ عُبَيْد بن عُمَير: تُحِسُّونَهُم - رباعياً - أي: أذهبتم حِسَّهم بالقتل.

قال أبو عبيدةَ، والزَّجَّاجُ: الحَسُّ: الاستئصال بالقَتْل.

قال الشاعر: [الطويل]
1658- حَسَسْنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فأصْبَحَتْ   بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا
وقال جرير: [الوافر]
1659- تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى   حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجَم الْحَصِيدِ
ويقال: جراد محسوس - إذ قتله البردُ - والبرد محسة للنبت: - أي: محرقة له، ذاهبته. وسنة حَسُوسٌ: أي: جدبة، تأكل كلَّ شيءٍ.

قال رؤية: [الرجز]
1660- إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا   تَأكُلُ بَعْدَ الأخْضَرِ الْيَبِيسَا
وأصله من الحِسّ - الذي هو الإدراك بالحاسة -.

قال أبو عبيدٍ: الحَسُّ: الاستئصال بالقتل واشتقاقه من الحِسّ، حَسَّه - إذا قتله - لأنه يُبْطل حِسَّه بالقتل، كما يقال: بَطَنَهُ - إذا أصاب بطنه، وَرَأسَهُ، إذا أصاب رأسه.

و " بإذْنِهِ " متعلق بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل " تَحُسُّونَهُمْ " ، أي: تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك.

قال القرطبيُّ: " ومعنى قوله: " بإذْنه " أي: بعلمه، أو بقضائه وأمره ".

فصل

وجه النظم: قال محمدُ بن كَعْب القُرَظيّ: لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابُه إلى المدينة من أحدٍ - وقد أصابهم ما أصابهم - قال ناسٌ من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا اللهُ بالنصرِ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآية؛ لأنَّ النصرَ كان للمسلمين في الابتداءِ.

وقيل: كان النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أنه يذبح كَبْشاً، فَصَدَقَ اللهُ رُؤيَاهُ بِقَتْلِ طَلْحَةَ بن عثمان - صاحب لواء المشركين يوم أُحُدٍ - وقُتِل بعده تسعةُ نفر على اللواء، فذلك قوله تعالى: { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ ٱللَّهُ وَعْدَهُ } يريد: تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم.

وقيل: يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى:إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هَـٰذَا يُمْدِدْكُمْ } [آل عمران: 125] إلا أن هذا مشروطاً بشرط الصبرِ والتقوى.

وقيل: يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله:سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } [آل عمران: 151].

وقيل: الوعد هو قول النبي صلى الله عليه وسلم للرُّماة: لا تبرحوا عن هذا المكانَ؛ فإنا لا نزال غالبين ما دُمْتم في هذا المكان.

قال أبو مسلم: لما وعَدهم اللهُ - تعالى - في الآية المتقدمة - بإلقاء الرعب في قلوب الكفارِ، أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعدِ بالصبر في واقعة أُحُدٍ، فإنه لما وعدهم بالنصر - بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتَوْا بذلك الشرطِ، وفى الله تعالى لهم بالمشروطِ.

السابقالتالي
2 3 4 5