الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ }

والعامة على بناء " زُيِّنَ " للمفعول، والفاعل المحذوف هو الله تعالى؛ لما ركب في طباع البشر من حب هذه الأشياء، وقيل: هو الشيطان، فالأوّل قول أهلِ السنة؛ قالوا: لو كان المزين هو الشيطان فمن ذا الذي زَيَّن الكفرَ والبدعةَ للشيطان؟ فإن كان ذلك شيطاناً آخرَ لزم التسلسل، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن في الإنسان كذلك، وإن كان من الله وهو الحق - فليكن في حَقِّ الإنسان أيضاً كذلك، ويؤيده قوله تعالى:هَـٰؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا } [القصص: 63] يعني إن اعتقد أحد أنَّا أغويناهم، فمَن الذي أغوانا؟ وهذا ظاهر جداً، وقال تعالى:إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا } [الكهف: 7] ونُقِل عن المعتزلة ثلاثةُ أقوالٍ:

أحدها: أن الشيطان زَيَّن لهم، حكي عن الحسن أنه [كان] - يحلف بالله على ذلك - ويقول: من زينها؟ إنما زيَّنها الشيطانُ؛ لأنه لا أحد أبغض لها من خالقها.

احتج لهم القاضي بوجوه:

الأول: أنه تعالى أطلق حبَّ الشهواتِ، فيدخل فيه حُبُّ الشهواتِ المحرمةِ، ومُزَينُ الشهواتِ المحرمة هو الشيطانُ.

الثاني: أنه - تعالى - ذكر القناطيرَ المقنطرةَ من الذهبِ والفضةِ، وحُبُّ هذا المالِ الكثيرِ لا يليق إلا بمَنْ جعل الدنيا قِبْلَةَ طلبه، ومُنتَهَى مقصودِه؛ لأن أهْلَ الآخرةِ يكتفون بالبُلْغَةِ.

الثالث: قوله تعالى: { ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } ، فذكره في مَعْرض ذَمِّ الدنيا، والذامُّ للشيء لا يزينُهُ.

الرابع: قوله:قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ } [آل عمران: 15] والمقصود من هذا الكلامِ صرفُ العبدِ عن الدنيا وتقبيحُها له، وذلك لا يليق بمن يزيِّنُ الدنيا في عينه.

القول الثاني: أن المزين هو الله تعالى، واحتجوا عليه بوجوه:

أحدها: أنه تعالى كما رغَّب في منافِع الآخرةِ فقد خلق مَلاَذَّ الدنيا، وأباحها لعبيده؛ فإنه إذا خلق الشهوةَ والمُشْتَهَى، وخلق للمشتهى عِلْماً بما في تناوُل المشتَهَى من اللذةِ، ثم أباح له ذلك التناولَ؛ يقال: إنه زيَّنَها له.

وثانيها: أن الانتفاع بهذه الشهواتِ وسائلُ إلى منافع الآخرةِ، والله تعالى نَدَب إليها، فكان تزييناً لها، أمَّا كونها وسائلَ إلى ثوابِ الآخرةِ أنه يتصدق بها، ويتقوَّى بها على الطاعة وأيضاً إذا علم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله حمله ذلك على الاشتغال بالشكر.

قال صاحب بن عبَّادٍ: " شُرْبُ الْماءِ الْبَارِدِ في الصَّيْفِ يَسْتَخْرِجُ الْحَمْدَ مِنْ أقْصَى الْقَلْبِ " وأيضاً فإن القادرَ على التمتُّع باللذات إذا تركها واشتغل بالعبادة، وتحمل ما في ذلك من المشقة كان أكثرَ ثواباً.

وثالثها: قوله تعالى:خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } [البقرة: 29]، وقوله:قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ } [الأعراف: 32]، وقوله:إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى ٱلأَرْضِ زِينَةً لَّهَا }

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8