الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } * { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ }

لمَّا رغَّب المسلمين في تَرْك الالتفات إلى أقوال الكُفَّار وأفعالهم بقوله:كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [آل عمران: 110]، رغَّبهم - أيضاً - من وَجْه آخر، وهو أنه لا قُدْرَةَ لهم على إضرار المسلمين، إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به، ولو أنهم قاتلوا المسلمين لانهزمت الكفار، فلذلك لا يلتفت إلى أقوالهم وأفعالهم.

قال مقاتل: إن رؤوس اليهود عمدوا إلى مَنْ آمن منهم - عبد الله بن سلام وأصحابه - فآذَوْهم، فنزلت هذه الآية.

قوله: { إِلاَّ أَذًى } فيه وجهان:

أحدهما: أنه متصل، وهو استثناء مفرَّغ من المصدر العام، كأنه قيل: لن يضروكم ضرراً ألبتة إلا ضرر أذى لا يبالى به - من كلمة سوء ونحوها - إمَّا بالطعن في محمد وعيسى - عليهما السلام - وَإمَّا بإظهار كلمة الكفر - كقولهم: عيسى ابنُ الله، وعُزَيْر ابن الله، وإن الله ثالث ثلاثة، وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل، وإما بتخويف ضعفةِ المسلمين.

الثاني: أنه منقطع، أي: لن يضروكم بقتال وغَلَبَة، لكن بكلمة أذًى ونحوها.

قال بعض العلماء: وهذا بعيد، لأن الوجوه المذكورة توجب وقوع الغَمِّ في قلوب المسلمين، والغم ضرر. فالتقدير: لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى، فهو استثناء صحيح، والمعنى: لا يضروكم إلا ضَرَراً يَسِيراً.

قوله: { وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ ٱلأَدْبَارَ } هذا إخْبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لانهزموا، وخُذلوا، { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } أي: إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة، ولا قوة - ألبتة -، ونظيره قوله تعالى:وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ ٱلأَدْبَارَ } [الحشر: 12]، وقوله:قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } [آل عمران: 12]، وقوله:نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ ٱلْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ ٱلدُّبُرَ } [القمر: 44-45]، وكل ذلك وَعْد بالفتح، والنصر، والظفر، وهذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة.

منها: أن المؤمنين آمنون من ضررهم.

ومنها: أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا.

ومنها: أنه لا يحصل لهم شوكة بعد الانهزام.

وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا، وما أقدموا على محاربة، وطلب رئاسة إلا خُذِلوا، وكل ذلك إخبار عن الغيب، فيكون معجزاً.

فإن قيل: هَبْ أن اليهودَ كذلك، لكن النصارى ليسوا كذلك، وهذا يقدح في صحة هذه الآيات.

فالجواب: أنها مخصوصة باليهود، لما رُوِيَ في سبب النزول.

وقوله: { ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ } كلام مستأنف.

فإن قيل: لِمَ كان قوله: { ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } مستأنفاً، ولم يُجْزَم، عطفاً على جواب الشرط؟

فالجواب: أنه لو جُزِم لتغيَّر المعنى؛ لأن الله - تعالى - أخبرهم بعدم نُصْرَتهم - مطلقاً - فلو عطفناه على جواب الشرط لزم تقييده بمقاتلتهم لنا، بينما هم غير منصورين مطلقاً - قاتلوا، أو لم يقاتلوا.

السابقالتالي
2 3 4