في " كان " هذه - ستة أقوال: أحدها: أنها ناقصة على بابها - وإذا كانت كذلك، فلا دلالة لها على مُضِيٍّ وانقطاع، بل تصلح للانقطاع نحو: كان زيدٌ قائماً، وتصلح للدوام، كقوله:{ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء: 96]، وقوله:{ وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزِّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } [الإسراء: 32]، فهي - هنا - بمنزلة: لم يزل، وهذا بحسب القرائن. وقال الزمخشري: " كان عبارة عن وجود الشيء في زمنٍ ماضٍ، على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارئ، ومنه قوله تعالى:{ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء: 96]، وقوله: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [آل عمران: 110]. كأنه قيل: وُجِدتم خيرَ أمة ". قال أبو حيان: قوله: " لم يدل على عدم سابق " ، هذا إذا لم يكن بمعنى: " صار " ، فإذا كان بمعنى: " صار " دلت على عدم سابق، فإذا قلتَ: كان زيدٌ عالماً - بمعنى: صار زيدٌ عالماً - دل على أنه نقل من حالة الجَهْل إلى حالة العلم. وقوله:؛ " ولا على انقطاع طارئ " ، قد ذكرنا - قبل - أن الصحيح أنها كسائر الأفعال، يدل لفظ المُضِيّ منها على الانقطاع، ثم قد يستعمل حيث لا انقطاع، وفرق بين الدلالة والاستعمال؛ ألا ترى أنك تقول: " هذا اللفظ يدل على العموم " ثم قد يستعمل حيث لا يراد العموم، بل يراد الخصوص. وقوله: كأنه قيل: " وجدتم خير أمة " ، هذا يعارض قوله: إنها مثل قوله:{ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء: 96]؛ لأن تقديره: وجدتم خير أمة يدل على أنها التامة، وأن { خَيْرَ أُمَّةٍ } حال، وقوله:{ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } [النساء: 96] لا شك أنها - هنا - الناقصة، فتعارضا. قال شهابُ الدين: " لا تعارُضَ؛ لأن هذا تفسير معنًى، لا إعراب ". الثاني: أنها بمعنى: " صرتم " ، و " كان " تأتي بمعنى: " صار " كثيراً. كقوله: [الطويل]
1571- بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كأنَّهَا
قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا
أي: صارت فراخاً. الثالث: أنها تامة، بمعنى: " وجدتم " ، و { خَيْرَ أُمَّةٍ } - على هذا منصوب على الحال، أي: وجدتم على هذه الحال. الرابع:؛ أنها زائدة، والتقدير: أنتم خير أمة، وهذا قول مرجوح، أو غلط، لوجهين: أحدهما: أنها لا تزاد أولاً، وقد نقل ابنُ مالك الاتفاق على ذلك. الثاني: أنها لا تعمل في " خير " مع زيادتها. وفي الثاني نظر، إذ الزيادة لا تنافي العمل، لما تقدم عند قوله: " وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله "؟ الخامس: أنها على بابها، و المراد: كنتم في علم الله، أو في اللوح المحفوظ، أو في الأمم السالفة، مذكورين بأنكم خير أمة.