الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } * { وَٱعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ ٱللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ ٱلنَّارِ فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } * { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى ٱلْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } * { وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }

لما حذر المؤمنين من إضْلال الكفَّارِ، أمرهم في هذه الآياتِ بمجامع الطاعات، فأمرهم - أولاً - بتقوى الله، وثانياً - بالاعتصام بحبل الله، وثالثاً - بالاجتماع والتأليف، ورابعاً - بالترغيب بقوله: { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ }.

والسبب في هذا الترتيب أن فِعْلَ الإنسان، لا بد وأن يكون مُعَلَّلاً إما بالرهبة، وإما بالرغبة، والرهبة مقدمة على الرغبة؛ لأن دَفْع الضرر مقدَّمٌ على جَلْب النَّفْع، فقوله: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } إشارة إلى التخويف من عقاب الله، ثم جعله سبباً للتمسك بدين الله والاعتصام بحبله، ثم أرْدَفَه بالرغبة، فقال: { وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } فكأنه قال: خَوْف الله يوجب ذلك، وكثرة نعم الله توجب ذلك، فلم تَبْقَ جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله تعالى، ووجوب طاعتكم لحكمه.

فصل

قال بعض العلماء: هذه الآية منسوخة؛ لما روي عن ابن عباس أنه لمَّا نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين؛ لأن حقَّ تقاته أن يُطَاعَ فلا يُعْصَى طرفة عين، وأن يُشْكَر فلا يُكفر، وأن يذكر فلا ينسى - والعباد لا طاقة لهم بذلك، فنزل:فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16]، فنسخت أول هذه الآيةِ، ولم ينسخ آخرها، وهو قوله: { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } وقال جمهور المحقِّقين: إن القول بهذا النسخ باطلٌ؛ لما روي عن معاذ أنه صلى الله عليه وسلم قال: " " أتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ على الله "؟ فقلت: اللهُ ورسولُه أعْلَمُ. قال: " حَقُّ الله على العِبَادِ أن يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وحَقُّ العِبَادِ على اللهِ ألا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً " قلت: يا رسول الله، أفلا أبَشر الناسَ؟ قال: " لا تبشرهم فيتَّكلوا " " وهذا لا يجوز أن يُنْسخَ؛ ولأن معنى قوله: { ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ } أي: كما يحق أن يتقى، وذلك بأن تُجْتَنَبَ جميع معاصيه، ومثل هذا لا يجوز أن يُنْسخ؛ لأنه إباحة لبعض المعاصي، وإذا كان كذلك صار معنى هذه الآية ومعنى قوله:فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [التغابن: 16] واحداً؛ لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته؛ ولأن حق تقاته ما استطاع من التقوى؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة، ونظير هذه الآية قوله:وَجَاهِدُوا فِي ٱللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ } [الحج: 78].

فإن قيل: أليس قد قال تعالى:وَمَا قَدَرُواْ ٱللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [الأنعام: 91]؟

فالجواب: أن هذه الآية وردت في ثلاثة مواضع في القرآن، وكلها في صفة الكفار، لا في صفة المسلمين، وأما الذين قالوا: إن المراد هو أن يُطاع فلا يُعصى فهذا صحيح، والذي يصدر عن الإنسان كان سَهْواً، أو نِسْيَاناً فغير قادح فيه؛ لأن التكليف مرفوع عنه في هذه الأحوال، وكذلك قوله: أن يشكر فلا يكفر؛ لأن ذلك واجب عليه عند حضور نعم الله بالبال، فأما عند السهو فلا يجب، وكذلك قوله: أن يذكر فلا يُنْسَى، فإن ذلك واجب عند الدعاء والعبادة، وكل ذلك مما يطاق، فلا وَجْهَ للقول بالنسخ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد