الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ } * { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ }

قوله تعالى: { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَىٰ قَوْمِهِ... } لما بين التكليف، وذكر أقسام المكلفين ووعد المؤمن الصادق بالثواب العظيم، وأوعد الكافر والمنافق بالعذاب الأليم فكأنه قال: هذا التكليف ليس مختصاً بالنبي وأصحابه وأمته حتى صعب عليهم بل قبله كان كذلك كما قال تعالى:وَلَقَدْ فَتَنَّا ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [العنكبوت: 3]، فذكر من الذين كلفوا قبله نوح عليه (الصلاة و) السلام وقومه، وإبراهيم عليه (الصلاة و) السلام وغيرهما.

قوله: " ألْفَ سَنَةٍ " منصوب على الظرف { إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } منصوب على الاستثناء. وفي وقوع الاستثناء من أسماء العدد خلاف. وللمانعين عنه جواب عن هذه الآية، وقد روعيت هنا نكتة لطيفة، وهو أن غَايَرَ بين تَمْيِيزي العَدَد فقال في الأول " سنة " ، وفي " الثاني " عاماً، لئلا يثقل اللفظ، ثم إنه خص لفظ العام بالخمسين إيذاناً بأن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لما استراح منهم بقي في زمن حسن، فالعرب تعبر عن الخَصْب بالعام، وعن الجَدْب بالسنة.

فصل

قال بعضهم: إن الاستثناء في العدد تكلم بالباقي، فإذا قال القائل: لفلان عَلَيَّ عشرة إلا ثلاثةً فكأنه قال: عليّ سبعة، إذا علم هذا فقوله: { أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً } كقوله: تسعمائة وخمسين سنة فما الفائدة في العدول عن هذه العبارة إلى غيرها؟ فقال الزمخشري فيه فائدتان، إحداهما: أنّ الاستثناء يدل على التحقيق وتركه قد يظن به التقريب، فإن من قال: عاش فلان ألفَ سنة (يمكن أن يتوهم أن يقول ألف سنة) تقريباً لا تخفيفاً، فإذا قال إلا شهراً أو إلا سنة يزول ذلك التوهم، وقد يفهم منه التحقيق. الفائدة الثانية: هي أن ذكر لَبْثِ نوح عليه (الصلاة و) السلام في قومه كان لبيان أنه صبر كثيراً فالنبي عليه (الصلاة و) السلام أولى بالصبر مع قِصَرِ مُدَّةِ (دُعَائِهِ).

قوله: { فَأَخَذَهُمُ ٱلطُّوفَانُ } فغرقوا { وَهُمْ ظَالِمُونَ } قال ابن عباس: مشركون. وفيه إشارة إلى أن الله لا يعذب على مجرد وجود الظلم ولا يعذب من ظلم وتاب بأن الظلم وجد منه وإنما يعذب على الإصرار على الظلم، فقوله: " وَهُمْ ظَالِمُونَ " يعني أهلكهم وهم ملتبسون بالظلم.

قوله: { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ ٱلسَّفِينَةِ } يعني من الغرق، " وجعلناها " يعني السفينة " آية للعالمين " أي عبرة، وفي كونها آية وجوه:

أحدُها: كانت باقية على الجُودِيِّ مدة مديدة.

وثانيها: أن نوحاً أمر بأخذ قومه معه، ورفع قدر من الزاد والبحر العظيم لا يتوقع أحد (نُضُوبَه). ثم إن الماء غيض قبل نفاد الزاد، ولولا ذلك لما حصل النجاة فهو بفضل الله لا بمجرد السفينة.

وثالثها: أن الله سلم السفينة من الرياح المزعجة والحيوانات المؤذية، ولولا ذلك لما حصل النجاة، وقيل: " الهاء " في " جَعَلْنَاهَا " راجعة إلى الواقعة أو النجاة أو العقوبة بالغرق.

السابقالتالي
2