الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ ٱلظَّمْآنُ مَآءً حَتَّىٰ إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ ٱللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّـٰهُ حِسَابَهُ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } * { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ ٱللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ }

قوله تعالى: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } الآية.

لما بيَّن حال المؤمن أنه في الدنيا يكون في النور، وبسببه يكون متمسكاً بالعمل الصالح ثم بين أنه يكون في الآخرة فائزاً بالنعيم المقيم والثواب العظيم، أتبع ذلك ببيان أن الكافر يكون في الآخرة في أشد الخسران، وفي الدنيا في أعظم أنواع الظلمات، وضرب لكل واحد منهما مثلاً، أما المثل الدال على حسرته في الآخرة فقوله: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ }.

قال الأزهري: " السَّرَابُ: ما يتراءى للعين وقت الضحى في الفلوات شبيهاً بالماء الجاري وليس بماء، ولكن الذي ينظر إليه من بعيد يظنه ماء جارياً، يقال: سَرَبَ الماءُ يَسْرُبُ سُرُوباً: إذَا جرى، فهو سَارِبٌ ". وقيل: السَّرَابُ: مَا يَتَرَاءَى للإنْسَانِ في القَفْرِ في شِدَّةِ الحَرِّ مِمَّا يُشْبهُ المَاءَ. وقيل: مَا يَتَكَاثَفُ مِنْ قُعُورِ القيعَانِ. قال الشاعر:
3836- فَلَمَّا كَفَفْت الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُهم   كَلَمْع سَرَابٍ في الفَلاَ مُتَألِّقِ
يضرب به المَثَلُ لمن يَظُنُّ بشيءٍ خيراً فَيُخْلَفُ ظَنُّهُ. وقيل: هو الشُّعَاعُ الذي يُرَى نِصْفَ النَّهَارِ في شدة الحَرِّ في البراري، يُخَيَّلُ للناظر أنه الماء السَّارِبُ، أي: الجاري، فإذا قرب منه لم ير شيئاً. والآل: ما ارتفع من الأرض، وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه المَلاَة يرفع الشخوص، يرى فيها الصغير كبيراً، والقصير طويلاً.

والرَّقْرَاقُ: يكون بالعشايا. وهو ما ترقرق من السراب، أي: جاء وذهب.

قوله: " بِقِيعَةٍ " فيه وجهان:

أحدهما: أنه متعلِّق بمحذوف على أنه صفة لـ " سَرَابٍ ".

والثاني: أنه ظرف، والعامل فيه الاستقرار العامل في كاف التشبيه.

والقيعة: بمعنى القاع، قاله الزمخشري، وهو المُنْبَسِطُ من الأرض، وتقدم في " طه ".

وقيل: بل هي جمعه كـ " جَارٍ وَجيرَة " قاله الفراء. وقرأ مسلمة بن محارب بتاء (ممطوطة)، وروي عنه بتاء شَكل الهاء، ويقف عليها بالهاء، وفيها أوجه:

أحدها: أن يكون بمعنى " قيعة " كالعامة، وإنَّما أشبع الفتحة فتولَّد منها ألف كقوله: مُخرنبقٌ لينباع. قاله صاحب اللوامح.

والثاني: أنه جمع: " قيعة " وإنَّما وقف عليها بالهاء ذهاباً به مذهب لغة طيئ في قولهم: " الإخْوَه والأخَوَاه " و " دَفْنُ البَنَاه من المَكْرُماه " أي: والأخوات، والبنات، والمكرمات. وهذه القراءة تؤيد أن " قيعة " جمع قاع.

قال الزمخشري: وقد جعل بعضهم " بِقِيعَاة " بتاء مدوَّرة كـ " رجل عِزْهَاةٍ ".

فظاهر هذا أنه جعل هذا بناء مستقلاً ليس جمعاً ولا إشباعاً.

قوله: " يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ " جملة في محل الجر صفة لـ " سَرَابٍ " أيضاً، وحَسُنَ ذلك لتقدم الجار على الجملة، هذا إن جعلنا الجارَّ صفةً والضمائر المرفوعة في " جَاءَهُ " ، وفي " لَمْ يَجِدْهُ " وفي " وَجَدَ " ، والضمائر في " عِنْدَهُ " وفي " وَفَّاهُ " وفي " حِسَابَهُ " كلها ترجع إلى " الظَّمْآن " لأن المراد به الكافر المذكور أولاً، وهذا قول الزمخشري وهو حَسَنٌ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6