الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } * { قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } * { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شَتَّىٰ } * { كُلُواْ وَٱرْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي ٱلنُّهَىٰ } * { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ }

قوله: { قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } البال: الفكر، يقال: خطر بباله كذا، ولا يثنى ولا يجمع، وشذ جمعه على بالات، ويقال للحال المكترث بها، وكذلك يقال: ما بَالَيتُ بالة، والأصل بالية كعافية فحذفت لامه تخفيفاً.

فصل

قال المفسرون: البَالُ، الحالُ، أي ما حال القرون الماضية والأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود.

وفي ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوه:

الأول: أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا قرر أمر المبدأ قال فرعون: إن كان إثبات المبدأ ظاهراً إلى هذا الحد { قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } ما أثبتوه بل تركوه، فكأن موسى - عليه السلام - لما استدل على إثبات الصانع بالدلالة القاطعة قَدَح فرعونُ في تلك الدلالة بقوله: إنْ كانَ الأمرُ على ما ذكرت من قوة الدلالة وجب على أهل القرون الماضية أن لا يغفلوا عنها. فعارض الحجة بالتقليد.

الثاني: أنَّ موسى - عليه السلام - لما هدده بالعذاب في قوله: { أَنَّ ٱلْعَذَابَ عَلَىٰ مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّىٰ } قال فرعون: { قَالَ فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } فإنها كذبت ولم يعذبوا؟

الثالث: وهو الأظهر، أنَّ فرعون لما قال: { فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَىٰ } فذكر موسى - عليه السلام - دليلاً ظاهراً على صحة دعواه فقال: { رَبُّنَا ٱلَّذِي أَعْطَىٰ كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَىٰ } خاف فرعون أن يزيد في تلك الحجة، فيظهر للناس صدقه، وفساد طريق فرعون، فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام، ويشغله بالحكايات فقال: { فَمَا بَالُ ٱلْقُرُونِ ٱلأُولَىٰ } فلم يلتفت موسى - عليه السلام - إلى ذلك الحديث وقال: { عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ } ولا يتعلق غرضي بأحوالهم، ولا أشتغل بها، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول، وإبراز الدلائل الظاهرة على الوحدانية فقال { ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } ، وهذا الوجه هو المعتمد في صحة النظم.

فإن قيل: العلمُ الذي عند الرب، كيف يكون في الكتاب؟ وذلك أن علم الله صفة قائمة به، فكون صفة الشيء حاصلة في كتاب غير معقول، فذكروا في الجواب وجهين:

الأول: معناه: أنه تعالى أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده ليكون ما كتبه فيه ظاهراً للملائكة، فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات ينزه عن السهو والغفلة، ولقائل أن يقول: قوله: " فِي كِتَابٍ " يوهم احتياجه سبحانه في العلم إلى ذلك الكتاب، وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أن يوهمه في أول الأمر لا سيما للكافر، فكيف يحسن ذكره مع معاندٍ مثل فرعون في وقت الدعوة؟

الوجه الثاني: أن يفسَّر ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب، فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها مغلومة لله تعالى بحيث لا يزول منها شيء عن علمه، ويؤكد هذا التفسير قوله بعد ذلك: { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى }.

السابقالتالي
2 3 4 5