الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يٰمُوسَىٰ } * { وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىٰ } * { إِذْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ أُمِّكَ مَا يُوحَىٰ } * { أَنِ ٱقْذِفِيهِ فِي ٱلتَّابُوتِ فَٱقْذِفِيهِ فِي ٱلْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ ٱلْيَمُّ بِٱلسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَىٰ عَيْنِيۤ }

قوله تعالى: { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى } فُعْل بمعنى مَفْعُول كقولك: خُبْزٌ بمعنى مَخْبُوز وأُكْلٌ بمعنى مَأْكُول، ولا ينقاس و " مَرَّةً " مصدر، و " أُخْرَى " تأنيث آخر بمعنى: غير، وزعم بعضهم أنها بمعنى آخرة فتكون مقابلة للأولى، وتخيَّلَ لذلك بأن قال سمّاها أخرَى وهي أولَى، لأنها أخرى في الذكر.

فصل

إن موسى عليه السلام لما سأل ربه تلك الأمور الثمانية، وكان في المعلوم أن قيامه بما كلفه (لا يتم إلا بإجابته إليها، لا جرم أجابه الله تعالى إليها ليكون أقدر على إبلاغ ما كلف به) فقال: { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَىٰ. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَىۤ } فنبه بذلك على أمور:

أحدها: كأنه تعالى قال: إني رَاعَيْتُ مَصْلَحتَكَ قبل سؤالك فكيف لا أُعطيك مرادك بعد السؤال.

وثانيها: إني كنت ربيتُك فلو منعتك الآن كان ذلك رداً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان، فكيف يليق بكرمي.

وثالثها: إنا أعطيناك في الأزمنةِ السالفةِ كلَّ ما احتجتَ إليه، ورقَّيْنَاكَ إلى الدرجة العالية، وهي درجة النبوة، فكيف يليق بمثل هذه الرتبة المنع عن المطلوب. ومعنى " مَنَنَّا عَلَيْكَ " أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ " مَرَّةً أُخْرَى " فإن قيل: لِمَ ذكر تلك النِّعَم بلفظ المنّة مع أن هذه اللفظة مؤذية والمقامُ مقامُ التلطف؟

فالجواب: إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أن هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقاً لشيء منها، بل إنما خصَّه الله بها لمحض التفضل والإحسان.

فإن قيل: لم قال: " مَرَّةً أُخْرَى " مع أنه تعالى ذكر " مِنَناً " كثيرة؟

فالجواب: لَمْ يُعْن بـ " مَرَّةً أُخْرَى " مرة واحدة من المنن، لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير.

قوله: " إذْ أَوْحَيْنَا " العامل في " إذْ مَنَنا " أي مننا عليك في وقت إيحائنا إلى أمك، وأبهَمَ في قوله: " مَا يُوحَى " للتعظيم كقوله تعالى:فَغَشِيَهُمْ مِّنَ ٱلْيَمِّ مَا غَشِيَهُم } [طه: 78] وهذا وحي إلهام، لأن الأكثرين على أن أم موسى - عليه السلام - ما كانت من الأنبياء، وذلك لأن المرأة لا تصلح للقضاء والإمامة، ولا تمكن عند أكثر العلماء من تزويج نفسها، ويدل على ذلك قوله تعالى:وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِيۤ إِلَيْهِمْ } [الأنبياء: 7].

والوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة قال تعالى:وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَىٰ ٱلنَّحْلِ } [النحل: 68]وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى ٱلْحَوَارِيِّينَ } [المائدة: 111] ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه:

الأول: أنه رؤيا رأتها أم موسى، وكان تأويلها وضع موسى عليه السلام في التابوت، وقذفه في البحر، وأن الله تعالى يرده إليها.

السابقالتالي
2 3 4