الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً مِّن دُونِ ٱلنَّاسِ فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } * { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلظَّالِمينَ }

وهذا نوع آخر من قبائح أفعالهم، وهو زعمهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون النَّاس، ويدلّ عليه أنه لا يجوز أن يقال للخصم: إن كان كذا أو كذا فافعل كذا، والأول مذهبه، ليصحّ إلزام الثاني عليه.

ويدلّ على ذلك أيضاً قولهم:لَن يَدْخُلَ ٱلْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ } [البقرة:111] وقولهم:نَحْنُ أَبْنَاءُ ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } [المائدة:18] وقولهم:لَن تَمَسَّنَا ٱلنَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } [البقرة:80].

وأيضاً اعتقادهم في أنفسهم أنهم هم المحقّون؛ لأن النسخ غير جائز في شرعهم، وأن سائر الفرق مبطلون، وأيضاً اعتقادهم أن أنتِسَابَهُمْ إلى أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أعني: يعقوب وإسماعيل وإسحاق وإبراهيم ـ عليهم السلام ـ يخلصهم من [عقاب] الله ـ تعالى ـ ويوصلهم إلى ثوابه، فكذّبهم الله ـ تعالى ـ وألزمهم الحُجّة، فقال: قل لهم يا محمد: إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجَنّة خالصة من دون النَّاس، فتمنوا الموت أي: فأريدوه واسألوه؛ لأن من علم أن الجنة مَأْواه حنّ إليها؛ لأن نعم الدنيا على قلّتها كانت منغصةً عليهم بسبب ظهور محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ ومنازعته لهم بالجِدَالِ والقتال، ومن كان في النّعم القليلة المنغصة، وهو يتيقّن بعد الموت أنه ينتقل إلى تلك النعم العظيمة، فإنه لا بد وأن يرغب في الموت.

وقيل: إن الله ـ تعالى ـ صرفهم عن إظْهَار التمنِّي، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صلى الله عليه وسلم.

وقيل: فتمنّوا الموت: ادعوا بالموت على الفِرْقَةِ الكاذبة. روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لو تمنوا الموت لشرق كلّ إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلاَّ مات ".

قوله: { إِنْ كَانَتْ لَكُمُ ٱلدَّارُ ٱلآخِرَةُ عِندَ ٱللَّهِ خَالِصَةً } شرط جوابه " فَتَمَنّوا ".

و " الدار " اسم " كان " وهي الجنة، والأولى أن يقدّر حذف مضاف، أي: نعيم الدار الآخرة؛ لأن الدَّار الآخرة في الحقيقة هي انقضاء الدُّنيا، وهي للفريقين. واختلفوا في خير " كان " على ثلاثة أقوال:

أحدها: أنه " خالصة " ، فيكون " عند " ظرف لـ " خالصة " ، أو للاستقرار الذي " لكم " ويجوز أن تكون حالاً من " الدار " ، والعامل فيه " كان " ، أو الاستقرار.

وأما " لكم " فيتعلق بـ " كان "؛ لأنها تعمل في الظرف وشبيهه.

قال أبو البقاء رحمه الله تعالى: ويجوز أن تكون للتبيين، فيكون موضعها بعد " خالصة " أي: خالصة لكم فتتعلّق بنفس " خالصة " ، وهذا فيه نظر؛ لأنه متى كانت للبيان تعلّقت بمحذوف تقديره: أعني لكم، نحو: سُقْياً لك، تقديره: أعني بهذا الدعاء لك، وقد صرح غيره في هذا الموضع بأنها للبيان، وأنها متعلّقة حينئذ بمحذوف كما تقدم، ويجوز أن يكون صفة لـ " خالصة " في الأصل قُدّمَ عليها فصار حالاً منها، فيتعلّق بمحذوف.

السابقالتالي
2 3 4 5 6