الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ وَٱسْمَعُواْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ }

قوله: " واسمعوا " أي أطيعوا وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه، ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده، أي قبل وأجاب؛ قال [الوافر]
667ـ دَعَوْتُ اللهَ حَتَّى خِفْتُ أَلاَّ     يَكُونَ اللهُ يَسْمَعُ ما أَقُولُ
أي يقبل.

وقال الرَّاجز: [الرجز]
668ـ وَالسَّمْعُ والطَّاعَةُ والتَّسْلِيمْ     خَيْرٌ وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيمْ
فصل في التكرار

وفي هذا التكرير وجهان:

أحدهما: أنه للتأكيد، وإيجاب الحُجَّة على الخصم.

الثاني: كرره لزيادته على دلالة وهي قولهم: " سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا " [فرفع الجبل لا شك أنه من أعظم المعجزات، ومع ذلك أصرُّوا على كفرهم، وصرحوا بقولهم:سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } [النساء:46]].

وأكثر المفسرين ذكروا أنهم قالوا هذا القول.

وقال أبو مسلم: يجوز أن يكون المعنى سمعوه فتلقوه بالعصيان، فعبر عن ذلك بالقول، وإن لم يقولوه كقوله تعالى:أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [يس:82] وكقوله:قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [فصلت:11] والأول أولى، لأن هذا صَرْف للكلام عن ظاهره بغير حاجة.

قوله: " وأُشْربوا " يجوز أن يكون معطوفاً على قوله. " قَالُوا: سَمِعْنَا " ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل " قالوا " أي: قالوا ذلك، وقد أشربوا. ولا بد من إضمار " قد " ليَقْرُبَ الماضي إلى الحال خلافاً للكوفيين، حيث قالوا: لا يحتاج إليها، ويجوز أن يكون مستأنفاً لمجرد الإخبار بذلك.

واستضعفه أبو البقاء ـ رحمه الله تعالى ـ قال: لأنه قال بعد ذلك: " قل بِئْسَمَا يأمركم " فهو جواب قولهم: " سمعنا وعصينا " فالأولى ألا يكون بينهما أجنبي.

و " الواو " في " أشربوا " وهي المفعول الأول قامت مقام الفاعل، والثاني هو " العِجْل "؛ لأن " شرب " يتعدّى بنفسه، فأكسبته الهمزة مفعولاً آخر، ولا بد من حذف مُضَافين قبل " العِجْل " والتقدير: وأشربوا حُبَّ عبادة العِجْل.

وحسن حَذْفُ هذين المضافين للمبالغة في ذلك حتى كأنه تُصُوِّر إشراب ذات العِجْل، والإشراب مُخَالطة المائع بالجامد، ثم اتّسع فيه حتى قيل في الألوان نحو: أشرب بياضُه حُمْرةً، والمعنى: أنهم دَاخَلَهم حُبُّ عبادته، كما داخلَ الصّبغُ الثوبَ.

ومنه قول الشاعر: [الوافر]
669ـ إذَا مَا القَلْبُ أُشْرِبَ حُبَّ شَيْءٍ     فَلاَ تَأْمَلْ لَهُ الدَّهْرَ انْصِرَافَا
وعبر بالشرب دون الأكل؛ لأن الشرب يَتَغَلْغَلُ في باطن الشيء، بخلاف الأكل فإنه مُجَاور؛ ومنه في المعنى: [الطويل]
670ـ جَرَى حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي في مَفَاصِلِي     .......................
وقال بعضهم: [الوافر]
671ـ تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فُؤَادِي     فَبَادِيهِ مَعَ الخافِي يَسِيرُ
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ     وَلاَ حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرورُ
أَكَادُ إِذَا ذكَرْتُ العَهْدَ مِنْهَا     أَطِيرُ لَوَ أنَّ إِنْسَاناً يَطِيرُ
فهذا وجه الاستعارة.

وقيل: الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، فكذلك كانت تلك المحبة مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال.

السابقالتالي
2