الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ }

روي عن ابن عباس أن التَّوراة لما نزلت أمر الله موسى بِحَمْلِهَا فلم يطق ذلك، فبعث لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حملها، فخفّفها الله على موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فحملها.

[قوله]: { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ } التضعيف في " قَفَّيْنَا " ليس للتَّعدية؛ إِذْ لو كان كذلك لتعدّى إلى اثنين؛ لأنه قيل: التضعيف يتعدّى لواحد، نحو: " قَفَوْتُ زَيْداً " ، ولكنه ضُمِّن معنى " جئنا " كأنه قيل: وجئنا من بعده بالرُّسل.

فإن قيل: يجوز أن يكون متعدياً لاثنين على معنى أنَّ الأول محذوف، والثاني " بالرسل " والباء فيه زائدة تقديره: " وَقَفَّيْنَا من بعده الرسل ".

فالجَوَاب: أن كثرة مجيئه في القرآن كذلك يبعد هذا التَّقْدِير، وسيأتي لذلك مزيد بيان في " المائدة " [الآية:46] إن شاء الله تعالى.

و " قَفَّيْنَا " أصله: قَفَّوْناً، ولكن لما وقعت " الواو " رابعة قلبت " ياء " ، واشتقاقه من " قَفَوْتُ " ، وقَفَوْتُه إذا اتَّبَعْتُ قَفَاه، ثم اتُّسِع فيه، فأطلق على تابع، وإن بَعُدَ زمان التابع عن زمان المتبوع.

قال أميَّةُ: [البسيط]
646ـ قَالَتْ لأُخْتٍ لَهُ قُصِّيهِ عَنْ جُنُبٍ     وَكَيْفَ تَقْفُو وَلاَ سَهْلٌ وَلاَ جَبَلُ
و " القَفَا ": مؤخّر العُنُق، ويقال له: القافية أيضاً، ومنه الحديث: " يعقد الشيطان على قَافِيَة رَأْس أَحَدِكُمْ ".

والقَفَاوَة: ما يدّخر من اللّبن وغيره لمن تريد إكرامه، وقفوت الرجل: قذفته بِفُجُور، " وفلان قِفْوتِي ": أي تُهْمتي، وقِفْوتي أي خيرتي.

قال ابن دريد: كأنه من الأضداد.

ومنه قافية الشعر؛ لأنها يتلو بعضها بعضاً، ومعنى قفّينا: أي أتبعنا، كقوله:ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } [المؤمنون:44].

و " مِنْ بَعْدِهِ " متعلق به، وكذلك: " بالرُّسُل " وهو جمع رسول بمعنى مُرْسَل، وفُعُل غير مقيس في " فعيل " بمعنى " مفعول " وسكون العين لغة " الحجاز " وبها قرأ الحسن، والضم لغة " تميم " وبها قرأ السَّبعة إلاَّ أبا عمر، وفيما أضيف إلى " نا " أو " كم " أو " هم " ، فإنه قرأ بالسكون لتوالي الحركات.

فصل في تعيين الرسل المقفى بهم

هؤلاء الرُّسل: يوشع، وشمويل، وداود، وسليمان، وشعياء، وأرمياء، وعزير، وحزقيل، وإلياس، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم.

وروي أن بعد موسى إلى أيام عيسى كانت الرسل متواترةً، ويظهر بعضهم في أثر البعض.

والشريعة واحدة في أيام عيسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ فإنه جاء بشريعة مجدّدة، والدليل على ذلك قوله: { وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ }؛ لأنه يقتضي أنهم على حدٍّ واحدٍ في الشريعة يتبع بعضهم بعضاً فيها. وقال القاضي: إنَّ الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شِرْعَةِ الأوّل بحيث لا يؤدي إلا تلك بعينها من غير زيادة ولا نُقْصَان، مع أنّ تلك الشريعة محفوظةٌ يمكن معرفتها بالتَّواتر عن الأول؛ لأن الرَّسُول إذا كان هذا حاله لم يمكن أن يعلم من جهة إلاَّ ما كان قد علم من قبل، أو يمكن أن يعلم من قبل، فكما لا يجوز أن يبعث الله رسولاً لا شريعة معه أصلاً، فكذا هاهنا، فثبت أنه لا بد وأن يكونوا قد بعثوا بشريعة جديدة إن كانت الأولى محفوظةً، أو محيية لبعض ما اندرس من الشَّريعة الأولى.

السابقالتالي
2 3 4 5 6