الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } * { ثُمَّ أَنْتُمْ هَـٰؤُلاۤءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِٱلإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ ٱلْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذٰلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَىٰ أَشَدِّ ٱلّعَذَابِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

هذا الخطاب كله كالذي قبله: وقوله: { لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ } كقوله: { لاَ تَعْبُدُونَ إلاَّ ٱللهَ } في الإعراب سواء.

و " تُسْفِكُونَ " من " أَسْفَك " الرّباعي.

وقرأ طلحة بن مصرف، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء وهي لغة، وأبو نهيك " تُسَفِّكُونَ " بضم التاء، وفتح السين، وتشديد الفاء.

و " وَلاَ تْخْرِجُونَ " معطوف.

فإن قيل: الإنسان ملجأ إلى ألاَّ يقتل نفسه فأي فائدة في النهي عنه؟

فالجواب من أوجه:

أحدها: أن هذا الإلجاء قد يتغير كما ثبت في أهل " الهِنْدِ " أنهم يقدرون في قتل النفس التَّخلُّص من عالم الفساد، واللحوق بعالم النور والصلاح، أو كثير ممن صعب عليه الزمان، وثقل عليه أمر من الأمور، فيقتل نفسه، فإذا انتفى كون الإنسان ملجأ إلى ترك قتله نفسه صحّ كونه مكلفاً به.

وثانيها: المراد لا يقتل بعضكم بعضاً، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتّصل به نَسَباً وديناً كقوله تعالى:فَٱقْتُلُوۤاْ أَنفُسَكُمْ } [البقرة:54] وثالثها أنه إذا قتل غيره، فكأنما قتل نفسه؛ لأنه يقتصُّ منه بإقامة المسبّب مقام السَّبب، وهو قريب من قولهم: " القَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ "؛ وقال: [الطويل]
628ـ سَقَيْنَاهُمُ كَأْساً سَقَوْنَا بِمِثِلْهَا     وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى المَوْتِ أَصْبَرَا
وقيل: لا تفسكوها بارتكاب أنفسكم ما يوجب سفكها كالارْتِدَاد نحوه وهو قريب مما قبله.

ورابعها: لا تتعرضوا لمُقَاتلة من يقتلكم، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم.

وخامسها: لا تسفكوا دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا، فتكونوا مهلكين لأنفكسم.

قوله: { وَلا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم } فيه وجهان.

الأول: لا تفعلون ما تستحقّون بسببه أن تخرجوا من دياركم.

الثاني: المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم؛ لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة.

" مِّن دِيَارِكُمْ " متعلّق بـ " تخرجون " ، و " من " لابتداء الغاية، و " ديار " جمع دار الأصل: دَوَرَ؛ لأنه من دَارَ ـ يَدُورُ ـ دَوَرَاناً، فأصل دِيَار: دِوَار، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، واعتلالها في الواحد.

وهذه قاعدة مطّردة [في كل جمع على " فِعَالٍ " صحيح اللام قد اعتلت عين مفردة، أو سكنت حرف علة نحو:] ديار وثياب، ولذلك صحّ " رِوَاء " لاعتلال لامه، و " طِوَال " لتحرك عين مفردة، وهو " طويل ".

فأما " طيال " في " طوال " فَشَاذّ، وحكم المصدر حكم هذا نحو: قام ـ قياماً، وصام ـ صياماً، ولذلك صح " لِوَاذ " لصحة فعله في قولهم: " لاوذ ".

وأما دَيَّار فهو من لفظة الدار، وأصله: ديوان، فاجتمع الياء والواو فأعلاً على القاعدة المعروفة فوزنه: " فَيْعَال " لا " فَعَّال " ، إذ لو كان " فَعَّالاً " لقيل: دَوَّار كـ " صَوَّام وقَوَّام " والدَّار: مجتمع القوم من الأَبنية.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد