هذا هو الإنعام العاشر. والميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة. واختلفوا في ذلك الميثاق. قال الأصَمّ: [ما وعده الله القوم] من الدَّلائل الدَّالة على صدق أنبيائه ورسله، وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعُهُود؛ لأنها لا تحتمل الخلف والكذب والتبديل بوجه ألبتة. وقال أبو مسلم: هو ما روى عبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم أن موسى ـ عليه الصَّلا والسَّلام ـ لما رجع إلى قومه بالألواح، قال لهم: " إن فيها كتاب الله تعالى " فقالوا: لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جَهْرَةً فيقول: هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصَّاعقة، فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، ثم قال لهم بعد ذلك: خذوا كتاب الله، فأبوا فرفع الطور وقيل لهم: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم، [فأخذوه] فرفع الطور هو الميثاق؛ لأنه آية [باهرة] عجيبةُ تبْهِرُ العقول، وتردّ المكذبَ إلى التصديق، والشَّاكَّ إلى اليقين، وأكدوا ذلك، وعرفوا أنه من قبله ـ تعالى ـ وأظهروا التوبة، وأعطوا العهد والميثاق ألاَّ يعودوا إلى ما كان منهم، وأن يقوموا بالتوراة، فكان هذا عهداً موثقاً. وروي عن عبد الله بن عباس: أن لله مِيثَاقَيْنِ. الأول: حين أخرجهم من صلب آدم، وأشهدهم على أنفسهم. والثاني: أنه ألزم النَّاس متابعة الأنبياء، وهو المراد من هذا العَهْدِ. قال ابن الخَطِيبِ: " وهذا ضعيف ". فإن قيل: لهم قال: " ميثاقكم " ولم يقل: " مواثيقكم "؟ قال القَفَّال: لوجهين: أحدهما: أراد به الدلالة على أنّ كلّ واحد منهم قد أخذ ذلك كما قال:{ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } [غافر:67] أي: كل واحد منهم أخذ عليه ما أخذ على غيره، فلا جرم كان كله ميثاقاً واحداً. والثاني: أنه لو قال: مواثيقكم لأبهم أن يكون هُنَاك مواثيق أخذت عليهم لا ميثاق واحد. قوله: { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ ٱلطُّورَ } نظيره:{ وَإِذ نَتَقْنَا ٱلْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوۤاْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ } [الأعراف:171]. و " الواو " في قوله: { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ } واو عطف على تفسير ابن عباس، والمعنى: أن أخذ الميثاق كان متقدماً فلما نقضوه بالامتناع عن قَبُول الكتاب رفعنا عليهم الجبل. وعلى تفسير أبي مسلم ليست واو عطف ولكنها واو الحال، كما يقال: " فعلت ذلك والزمان زمان " فكأنه قال: وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطُّور فوقكم. وفوقكم ظرف مكان ناصبه " رفعنا " ، وحكم " فوق " مثل حكم " تحت " ، وقد تقدم الكلام عليه. قال أبو البقاء: ويَضْعُفُ أن يكون حالاً من " الطور "؛ لأن التقدير يصير: ورفعنا الطور عالياً، وقد استفيد من " رفعنا ". وفي هذا نظر؛ لأن المراد به علو خاص، وهو كونه عالياً عليهم لا مُطْلَقَ العلو حتى يصير: رفعناه عالياً كما قدره.