الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَٰمُوسَىٰ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } * { ثُمَّ بَعَثْنَٰكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }

قوله: { لَن نُّؤْمِنَ } إنما تعّدى بـ " اللام " دون " الباء " لأحد وجهين:

إمّا أن يكون التقدير: لن نؤمن لأجل قولك.

وإما أن يضمن معنى الإقرار، أي: لن نقر لك بما ادعيته.

وقرأ أبو عمرو بإدغام النون في اللام، لتقاربهما.

وفرق بعضهم بين قوله: { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } وجعل الإيمان به بما جاء به، والإيمان له هو الاستسلام والانقياد.

قوله: { جَهْرَةً } فيها قولان:

أحدهما: أنها مصدر، وفيها حينئذ قولان:

أحدهما: أن ناصبها محذوف، وهو من لفظها تقديره: جهرتم جهرة، نقله " أبو البقاء ".

والثاني: أنها مصدر من نوع الفعل، فتنتصب انتصاب " القرفصاء " من قولك، " قعد القُرْفُصَاء " فإنها نوع من الرؤية، وبه بدأ " الزمخشري ".

والثَّاني: أنها مصدر واقع الحال، وفيها حينئذ أربعة أقوال:

أحدها: أنه حَالٌ من فاعل " نرى " ، أي: ذوي جَهْرَة، قاله " الزمخشري ".

والثاني: أنها حال من فاعل " قُلْتم " ، أي: قلتم ذلك مُجَاهرين، قاله " أبو البقاء ". وقال بعضهم: فيكون في الكلام تقديم وتأخير أي: قلتم جَهْرَةً: لن نؤمن لك، ومثل هذا لا يقال فيه تقديم وتأخير، بل أتي بمقول القول، ثم بالحال من فاعله، فهو نظير: " ضربت هنداً قائماً ".

والثالث: أنها حال من اسم الله ـ تعالى ـ أي: نراه ظاهراً غير مستور.

والرابع: أنها حال من فاعل " نؤمن " ، نقله " ابن عطية " ، ولا معنى له. والصحيح من هذه الأقوال هو الثاني.

وقرأ " ابن عَبَّاس ": جَهَرَةً بفتح الهاء، وفيها قولان:

أحدهما: أنها لغة في " جَهْرَة ".

قال " ابن عطية ": " وهي لغة " مسموعة " عند البصريين فيما كفيه حرف الحَلْق ساكن قد انفتح ما قبله، والكُوفيون يُجِيزُونَ فيه الفتح، وإن لم يسمعوه " وقد تقدم تحريره.

والثاني: أنها جمع " جَاهِر " نحو: " خَادِم وخَدَم " ، والمعنى: حتى نرى الله كَاشِفِينَ هذا الأمر، وهي تؤيد كون " جَهرة " حالاً من فاعل " نرى ".

و " الجَهْر ": ضد السِّرّ، وهو الكشف والظهور، ومنه: جَهَرَ بالقراءة أي: أظهرها.

قال الزمخشري: " كأن الَّذِي يرى بالعين جاهر بالرُّؤية، والذي يرى بالقلب مخافت بها ".

قوله: { فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } قرأ عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم " الصَّعْقة " بغير ألف، وقرأ الباقون بالألف، وهما لغتان.

فصل في زمان هذه الواقعة

قال محمد بن إسحاق: هذه الواقعة قَبْلَ تكليفهم بالقَتْلِ لما رجع موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ من الطُّور، فرأى ما هم عليه من عِبَادَةِ العِجْلِ، وقال لأخيه والسامري ما قال، وحرق العجل، وألقاه في البَحْرِ، واختار من قومه سبعين رجلاً، فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى: [أرنا ربك حتى] يسمعنا كلامه، فسأل موسى عليه الصلاة والسلام فأجاب الله إليه، ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغَمَامِ، وتغشّى الجبل كله، ودنا من موسى الغَمَام، فدخل فيه فقال للقوم: ادخلوا وادعوا، وكان موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ متى كلمه ربه أوقع على جبهته نوراً ساطعاً لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه، وسمع القوم كلام الله ـ تعالى ـ مع موسى يقول له: افْعَلْ ولا تَفْعَلْ، فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغَمَام الذي دخل فيه، فقال القوم بعد ذلك: { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ ٱلصَّاعِقَةُ } فماتوا جميعاً، وقام موسى رافعاً يديه إلى السماء يدعو، ويقول: يا إلهي اخترت بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم، فأرجع إليهم، وليس معي منهم واحد، فما الذي يقولون لي؟ فلم يزل موسى مشتغلاً بالدعاء حتى ردّ الله عليه أرواحهم، وطلب تَوْبَةَ بني إسرائيل من عبادة العجل فقال: " لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم ".

السابقالتالي
2 3