الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَٰطِلِ وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ }

أمر بترك الإغواء والإضلال وإضلال الغير له طريقان:

أحدهما: أن يكون الغير قد سمع دَلاَئِلَ الحق، فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش دلائل الحقّ عليه بالشبهات.

والثاني: أن تخفي تلك الدَّلائل عنه، وتمنعه من الوصول إليها فقوله: { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ } إشارة إلى الأول، وقوله: { وَتَكْتُمُواْ ٱلْحَقَّ } إشارة إلى الثاني.

والباء في قوله: " بالباطل " للإلصاق كقولك: " خلطت المَاءَ باللَّبَنِ " ، أي: لا تخلطوا الحقّ بالباطل، فلا يتميز.

وقال " الزمخشري ": إن كانت صلةً مثلها في قولك: لبست الشيء بالشَّيء، وخلطته به كان المعنى: ولا تَكْتُبُوا في التوراة ما ليس فيها فَيَخْتَلِطَ الحق المنزّل بالباطل الذي كتبتم.

وإن كانت " باء " الاستعانة كالتي في قولك: " كتبت بالقَلَمِ " كان المعنى: ولا تجعلوا الحقَّ مشتبهاً بباطلكم الذي تكتبونه.

فأجاز فيها وجهين كما ترى، ولا يريد بقوله " صِلَة " أنها زائدة، بل يريد أنها موصلة للفعل كما تقدم.

وقال " أبو حيان ": " وفي جعله إياها للاستعانة بُعْد، وصرف عن الظاهر من غير ضرورة " ، ولا أدري ما هذا الاستبعاد مع وضوح هذا المعنى الحق؟

وقال ابن الخطيب: [إنها " باء " الاستعانة]. والمعنى: ولا تلبسوا الحَقّ بسبب الشبهات التي تُورِدُونَهَا على السَّامعين، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد كانت نصوصاً خفيةً يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كانوا يُجَادلون فيها، ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بإلقاء الشبهات، فهذا هو المراد بقوله: { وَلاَ تَلْبِسُواْ ٱلْحَقَّ بِٱلْبَاطِلِ } ، فهو المذكور في قوله:وَجَادَلُواْ بِٱلْبَاطِلِ لِيُدْحِضُواْ بِهِ ٱلْحَقَّ } [غافر:5].

و " اللَّبْسُ ": الخَلْط والمَزْج؛ لقوله: لَبَسْتُ عليه الأمر أَلْبِسُهُ خَلَطْتُ بَيِّنَهُ بمُشْكِلِهِ؛ ومنه قوله الخَنْسَاءِ: [البسيط].
436ـ تَرَى الجَلِيسَ يَقُولُ الحَقَّ تَحْسَبُهُ     رُشْداً وَهَيْهَاتَ فَانْظُرْ مَا بِهِ الْتَبَسَا
صَدِّقْ مَقَالَتَهُ وَاحْذَرْ عَدَاوَتَهُ    وَالْبِسْ عَلَيْهِ أُمُوراً مِثْلَ مَا لَبَسَا
وقال العَجَّاج: [الرجز]
437ـ [لَمَّا لَبَسْنَ الحَقَّ بِالتَّجَنِّي     غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْداً مِنِّي]
ومنه أيضاً: [البسيط]
438ـ وَقَدْ لَبَسْتُ لِهَذَا الأَمْرِ أَعْصُرَهُ     حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ فَاشْتَعَلا
وفي فلان مَلْبَسٌ، أي مستمتع؛ قال: [الطويل]
439ـ أَلاَ إِنَّ بَعْدَ العُدْمِ لِلْمَرْءِ قُنْوَةً   وَبَعْدَ المَشِيبِ طُولَ عُمْرٍ وَمَلْبَسَا
وقول الفَرَّاء وغيره: [الكامل]
440ـ وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ    حَتَّى إذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي
يحتمل أن يكون منه، وأن يكون من " اللِّبَاس " ، والآية الكريمة تحتمل المعنيين، أي: لا تغطّوا الحق بالباطل.

ولبس الهَوْدَج والكعبة: ما عليهما من " لِبَاس " ـ بكسر اللام ـ ولِبَاسُ الرجل زوجته، وزوجها لِبَاسُهَا. قال تعالى:هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } [البقرة:187] وقال النابغة: [المتقارب]
441ـ إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا     تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاسَا

السابقالتالي
2 3