الجملة من قوله: { وَقُلْنَا يَاآدَمُ ٱسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ ٱلْجَنَّةَ } معطوفة على جملة " إذْ قُلْنَا " لا على " قلنا " وحده لاختلاف زمنيهما. و " أنت " توكيد للضمير المُسْتَكِنّ في " أسكن " ليصح العطف عليه " وزوجك " عطف عليه، هذا هو مذهب البَصْريين، أعني اشتراط الفعل بين المُتَعَاطفين إذا كان المعطوف عليه ضميراً مرفوعاً متصلاً، ولا يشترط أن يكون الفاصل توكيداً؛ بل أي فصل كان، نحو:{ مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ ءَابَاؤُنَا } [الأنعام: 148]. وأما الكوفيون فيجيزون ذلك من غير فاصل؛ وأنشدوا: [الخفيف]
388- قُلْتُ إذْ أَقْبَلَتْ وَزُهْرٌ تَهَادَى
كَنِعَاجِ الفَلاَ تَعَسَّفْنَ رَمْلا
وهذا عند البصريين ضرورة لا يقاس عليه، وقد منع بعضهم أن يكون " زوجك " عطفاً على الضمير المستكن في " اسكن " ، وجعله من عطف الجُمَلِ، بمعنى أن يكون " زوجك " مرفوعاً بفعل محذوف، أي: وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ، فحذف لدلالة " اسكن " عليه، ونظيره قوله:{ لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ } [طه: 58] وزعم أنه مذهب سيبويه، وكان شبهته في ذلك أن من حَقّ المعطوف حلوله محل المعطوف عليه، ولا يصح هنا حلول " زوجك " محلّ الضمير لأنّ فاعل فعل الأمر الواحد المذكور نحو: " قُمْ واسْكُن " لا يكون إلا ضميراً مستتراً وكذلك فاعل يفعل، فكيف يصح وقوع الظاهر المضمر الذي قبله؟ وهذا الذي يزعم ليس بشيء؛ لأنَّ مذهب سيبويه بنصّه يخالفه؛ ولأنه لا خلاف في صحّة " تقوم هند وزيد " ولا يصحّ مُبَاشرة " زيد " لا " تقوم " لتأنيثه. و " السُّكُون " و " السُّكْنَى ": الاستقرار، ومنه " المِسْكِينُ " لعدم حركته وتصرّفه، والسِّكين لأنها تقطع حركة المَذْبوح، والسَّكينة لأن بها يذهب القَلَقُ. وسكّان السفينة عربي لأنه يسكنها عن الاضطراب، والسّكن: النار. قال الشاعر: [مشطور السريع]
389-.............................
قَدْ قُوِّمَتْ بِسَكَنٍ وَأَدْهَانْ
و " الجَنّ ": مفعول به لا ظرف، نحو: " سكنت الدَّار ". وقيل: هي ظَرْف على الاتساع، وكان الأصل تعديته إليها بـ " في " لكونها ظرف مكان مختصّ، وما بعد القول منصوب به. فصل في بيان هل الأمر في الآية للإباحة أو لغير ذلك اختلفوا في قوله: " اسكن " هل هو أمر أو إباحة؟ فروي عن قتادة: أن الله ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابْتَلَى الملائكة بالسُّجود، وذلك لأن كلفه بأن يكون في الجنّة يأكل منها حيث شاء، ونهاه عن شجرة واحدة. وقال آخرون: إن ذلك إباحة. والصحيح أن ذلك الإسكان مشتمل على إباحة، وهي الانتفاع بجميع نعم الجنة وعلى تكليف، وهو النهي عن أَكْلِ الشجرة. قال بعضهم: قوله: " اسكن " تنبيه عن الخُرُوجِ؛ لأن السُّكْنَى لا تكون ملكاً؛ لأن من أسكن رجلاً مَسْكناً له فإنه لا يملكه بالسُّكنى، وأن له أن يخرجه منه إذا انقضت مدة الإسكان، وكان " الشَّعْبِيّ " يقول: إذا قال الرجل: داري لك سُكْنَى حتى تموت، فهي له حياته وموته، وإذا قال: داري هذه اسْكُنْهَا حتى تموت، فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مَاتَ، ونحو السُّكنى العُمْرَى، إلا أن الخلاف في العُمْرَى أقوى منه في السُّكنى.