الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }

{ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ } فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، وخبره الجملة من قوله تعالى: { لهم أَجْرُهُم } ، ولم يضمَّن المبتدأ هنا معنى الشَّرط، فلذلك لم تدخل الفاء في خبره، لأنَّ القصد بهذه الجملة تفسير الجملة التي قبلها؛ لأنَّ الجملة قبلها أخرجت مخرج الشَّيء الثَّابت المفروغ منه، وهو تشبيه نفقتهم بالحبَّة المذكورة، فجاءت هذه الجملة كذلك، والخبر فيها أُخرج مخرج الثَّابت المستقرِّ غير المحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع [غيره] ما قبله.

والثاني: أنَّ " ٱلَّذِينَ " خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين ينفقون، وفي قوله: { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ } على هذا وجهان:

أحدهما: أنَّها في محل نصبٍ على الحال.

والثاني: - وهو الأولى - أن تكون مستأنفةٌ، لا محلَّ لها من الإعراب، كأنها جواب سائل قال: هل لهم أجرٌ؟ وعطف بـ " ثمّ " جَرْياً على الأغلب؛ لأنَّ المتصدِّق لغير وجه الله لا يحصل منه المنُّ عقيب صدقته، ولا يؤذي على الفور، فجرى هذا على الغالب، وإن كان حكم المنِّ والأذى الواقعين عقيب الصّدقة كذلك.

قال الزَّمخشريُّ: ومعنى " ثُمَّ ": إظهار التَّفاوت بين الإنفاق، وترك المنِّ والأذى، وأنَّ تركهما خبرٌ من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدُّخول فيه بقوله:ثُمَّ ٱسْتَقَامُواْ } [فصلت:30]، فجعلها للتَّراخي في الرُّتبة، لا في الزَّمان، وقد تكرَّر له ذلك غير مرَّةٍ.

و " مَا " في قوله تعالى: { مَآ أَنْفَقُواُ } يجوز أن تكون موصولةً اسميّةً، فالعائد محذوفٌ، أي: ما أنفقوه، وأن تكون مصدريةً، فلا تحتاج إلى عائدٍ، أي: لا يتبعون إنفاقهم. ولا بدَّ من حذفٍ بعد " مَناً " ، أي: مناً على المنفق عليه، ولا أذى له، فحذف للدّلالة عليه.

والمنُّ: الاعتداد بالإحسان، وهو في الأصل: القطع، ولذلك يطلق على النِّعمة؛ لأنَّ المنعم يقطع من ماله قطعةً للمنعم عليه. يقال: قد منَّ الله على فلان، إذا أنعم عليه، ولفلان عليَّ منَّةٌ، أي: نعمة؛ وأنشد ابن الأنباريّ: [الطويل]
1218- فَمُنِّي عَلَيْنَا بالسَّلاَمِ فَإِنَّمَا   كَلاَمُكِ يَاقُوتٌ وَدُرٌّ مُنَظَّمٌ
ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ما مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَمَنّ عَلَيْنَا في صُحْبَتِهِ، وَلاَ ذَات يَدِهِ مِنْ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ " يريد أكثر إنعاماً بماله، وأيضاً فالله تعالى يوصف بأنَّه منَّانٌ، أي: منعمٌ، و " المنّ " أيضاً النَّقص من الحقّ. قال تبارك وتعالى:وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } [القلم:3] أي: غير مقطوع وغير ممنوع؛ ومنه سمي الموت منوناً؛ لأنه ينقص الحياة، ويقطعها، ومن هذا الباب: المنَّةُ المذمومة؛ لأنَّها تنقص النّعمة، وتكدّرها، والعرب يمتدحون بترك المنّ بالنِّعمة قال قائلهم: [الرمل]
1219- زَادَ مَعْرُوفُكَ عِنْدِي عِظَماً   أَنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُورٌ حَقِيرْ
تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ   وَهْوَ في العَالَمِ مَشْهُودٌ كَثِيرْ

السابقالتالي
2 3