الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِٱلطَّاغُوتِ وَيْؤْمِن بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسْتَمْسَكَ بِٱلْعُرْوَةِ ٱلْوُثْقَىٰ لاَ ٱنفِصَامَ لَهَا وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }

قوله تعالى: { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ }: كقوله:لاَ رَيْبَ فِيهِ } [البقرة:2] وقد تقدَّم. وأل في " الدِّين " للعهد، وقيل: عوضٌ من الإضافة أي " في دِينِ اللهِ " لقوله تعالى:فَإِنَّ ٱلْجَنَّةَ هِيَ ٱلْمَأْوَىٰ } [النازعات:41]، أي: تأوي.

والجمهور على إدغام دال " قَد " في تاء " تَبَيَّن "؛ لأنها من مخرجها.

والرُّشد: مصدر رشد بفتح العين يرشد بضمِّها، ومعناه في اللُّغة، إصابة الخير. وقرأ الحسنُ " الرُّشُد " بضمتين كالعنق، فيجوز أن يكون هذا أصله، ويجوز أن يكون إتباعاً، وهي مسألة خلاف أعني ضمَّ عين الفعل. وقرأ أبو عبد الرحمن الرَّشد بفتح الفاء والعين، وهو مصدر رشد بكسر العين يرشد بفتحها، وروي عن أبي عبد الرَّحمن أيضاً: " الرَّشَادُ " بالألف.

ومعنى الإكراه نسبتهم إلى كراهة الإسلام. قال الزَّجَّاج: " لاَ تَنْسُبوا إلى الكَرَاهَةِ مَنْ أَسْلَمَ مُكْرِهاً " ، يقال: " أَكْفَرَهُ " نسبه إلى الكفر؛ قال: [الطويل]
1186- وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُوني بِحُبِّهِمْ   وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيٌ وَمُذنِبُ
قوله: " مِنَ ٱلْغَيِّ " متعلِّقٌ بتبيَّن، و " مِنْ " للفصل، والتمييز كقولك: ميَّزت هذا من ذاك. وقال أبو البقاء: " في موضع نَصْبٍ على أنَّه مفعولٌ " وليس بظاهرٍ؛ لأنَّ معنى كونه مفعولاً به غير لائقٍ بهذا المحلِّ. ولا محلِّ لهذه الجملة من الإعراب؛ لأنَّها استئنافٌ جارٍ مجرى التّعليل لعدم الإكراه في الدين.

والتّبيين: الظهور والوضوح، بان الشَّيء، واستبان، وتبيَّين: إذا ظهر ووضح ومنه المثل: تَبَيَّنَ الصُّبح لذي عينين.

قال ابن الخطيب: وعندي أنَّ الإيضاح، والتعريف، إنَّما سمِّي بياناً؛ لأنَّه يوقع الفصلة، والبينونة بين المقصود وغيره.

والغيُّ: مصدر غوى بفتح العين قال:فَغَوَىٰ } [طه:121]، ويقال: " غَوَى الفَصِيلُ " إذا بَشِمَ، وإذا جاع أيضاً، فهو من الأضداد. وأصل الغيّ: " غَوْيٌ " فاجتمعت الياء والواو، فأُدغمت نحو: ميّت وبابه.

والغيُّ: نقيض الرُّشد: يقال: غَوَى يَغْوِي، غيّاً، وغَوَايَةٌ إذا سلك خلاف طريق الرُّشد.

فصل في معنى " الدِّين " في الآية

قال القرطبيُّ: المراد " بالدِّينِ " في هذه الآية الكريمة المعتقد، والملة بدليل قوله { قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشْدُ مِنَ ٱلْغَيِّ }.

قال سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة، لا يعيش لها ولد، فكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنَّه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهوديَّة. فلمَّا جاء الإسلام، وفيهم منهم، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عددٌ من أولاد الأنصار، فأرادت الأنصار استردادهم، وقالوا: أبناؤنا وإخواننا، فنزلت: { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ، فإن اخْتَارُوكم فهم منكم، وإن اخْتَارُوهم، فأجلوهم مَعَهمْ ".

وقال مجاهد: كان ناسٌ مسترضعين في اليهود من الأوس، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلاء بني النّضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبنّ معهم ولندينن بدينهم، فمنهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام فنزلت { لاَ إِكْرَاهَ فِي ٱلدِّينِ.

السابقالتالي
2 3 4