الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِٱلْجُنُودِ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّيۤ إِلاَّ مَنِ ٱغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا ٱلْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ ٱلَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ ٱللَّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ }

[قوله تعالى: " فَصَلَ ": أي: انْفَصَلَ، فلذلك كان قاصِراً. وقيل إِنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكن حُذِفَ، والتقديرُ: فَصَلَ نفسه ثم إن هذا المفعول حذف حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ.

و " بِالجُنُودِ " متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من " طَالُوت " أي مصاحباً لهم]. وبين جملةِ قوله: " فلمَّا فَصَلَ " وبين ما قبلَها من الجملِ جُمل محذوفةٌ يَدُلُّ عليها فحوى الكلامِ وقوتُه، تقديرُهُ: فلما أتاهم بالتَّابُوت أذعنوا له وأجابوا فَمَلَّكُوا طالوتَ، وتأهَّبوا للخروجِ، وهي كقوله:فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ } [يوسف:45، 46]. ومعنى الفصل: القَطْعُ.

يقال: فصلت اللَّحْمَ عن العَظم فَصْلاً، وفاصل الرَّجُل شريكهُ وامرأته فصالاً. ويُقالُ للفطام فِصالٌ؛ لأَنَّه يقطعُ عن الرَّضاع وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه، قال تعالى:وَلَمَّا فَصَلَتِ ٱلْعِيرُ } [يوسف:94] والجنود جمع جُنْدٍ، وكل صنف من الخلق جُنْدٌ على حدةٍ، يقال للجراد الكثيرة: إنَّها جنود اللهِ، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: " الأَرْوَاح جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ ".

فصل

روي أنَّ طَالُوت خرج من بيت المقدس بالجنود، وهم يومئذٍ سبعون ألفاً، وقيل: ثمانُون ألف مُقاتل، وذلك أَنَّهُم لمَّا رأَوا التَّابُوت لم يشكوا في النَّصْر، فساروا إلى الجهاد، فقال طالُوتُ: لا حاجة لي في كُلِّ ما أَرى، لا يخرجُ معي رجُلٌ بنى بيتاً لم يفرغ منه، ولا تاجِرٌ مشتغلٌ بالتِّجارة، ولا مَنْ تزوّج امرأة لم يبنِ بها، ولا يتبعني إلا الشاب النّشيط الفارغ، فاجتمع إليه مما اختار ثَمَانُون ألفاً، وكان في حَرٍّ شديد، فشكوا قلَّة الماءِ بينهم، وبين عدوِّهم وقالوا: إِنَّ المياه قليلة لا تحملنا، فادعُ اللهَ أن يجري لنا نهراً فقال: { إِنَّ ٱللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ } ، واختلفوا في هذا القائل، فقال الأكثرون هو طالوت؛ لأنَّهُ المذكور السَّابِقُ، وعلى هذا، فإِنَّه لم يقلهُ عن نفسه، فلا بُدَّ وأن يكُون عن وحي أَتَاهُ عن رَبِّهِ وذلك يقتضي أَنَّه كان مع الملك نبيٌّ، وقيل: القائِلُ هو النَّبِيُّ المذكور في أول القِصَّةِ، وهو أشمويل عليه الصَّلاة والسَّلام، وعلى هذا التَّقدير إن قلنا: هذا الكلامُ من طالُوت، فيكون تحمَّلَهُ عن ذلك النَّبي، وحينئذٍ لا يكون طالُوت نبيّاً، وإن قلنا: الكلام من النَّبيّ فتقديره: فَلَمَّا فصل طالُوت بالجنود قال لهم نبيهم: إن اللهَ مبتليكم بنهرٍ، وفي هذا الابتلاء وجهان:

الأول: قال القاضي: كان المشهُورُ من أمر بني إسرائيل مخالفة الأنبياء، والملوك مع ظهور الآيات، والمعجزات، فأراد اللهُ تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدوّ يتميز بها الصَّابِرُ على الحرب من غيره.

الثاني: أَنَّهُ تعالى ابتلاهم ليتعوَّدُوا الصَّبر على الشَّدائد والابتلاء الامتحان وفيه لغتان من " بَلاَ يَبْلُو " و " ابْتَلَى يَبْتَلِي "؛ قال: [الكامل]
1163- وَلَقَدْ بَلَوْتُكَ وَابْتَلَيْتُ خَلِيفَتِي   وَلَقَدْ كَفَاكَ مَوَدَّتِي بِتَأَدُّبِ

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8