اعلم أنَّ عادته تعالى: أن يذكر القصص بعد بيان الأحكام ليفيد الاعتبار للسَّامع. قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ }: هذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النَّفي، فصيَّرت النَّفي تقريراً، وكذا كلُّ استفهام دخل على نفي نحو:{ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } [الشرح:1]{ أَلَيْسَ ٱللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزمر:36] فيمكن أن يكون المخاطب علم هذه القصّة قبل نزول هذه الآية، فيكون التَّقرير ظاهراً، أي: قد رأيت حال هؤلاء، كقول الرَّجل لغيره يريد تعريفه ابتداء: " ألم تر إلى ما جرى على فلان "؟. قال القرطبيُّ: والمعنى عند سيبويه: تنبُّه إلى أمر الذين، ولا تحتاج هذه الرواية إلى مفعولين والمخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كل سامع، إلاَّ أنَّه قد وقع الخطاب معه ابتداءً كقوله:{ يٰأيُّهَا ٱلنَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ } [الطلاق:1] ويجوز أن يكون المراد بهذا الاستفهام: التعجب من حال هؤلاء، وأكثر ما يرد كذلك:{ أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ تَوَلَّوْاْ قَوْماً } [المجادلة:14]{ أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ } [الفرقان:45]؛ وقال الشاعر: [الطويل]
1151- أَلَمْ تَرَ أَنِّي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقاً
وَجَدْتُ بِهَا طِيباً وإنْ لَمْ تَطَيَّبِ
والرُّؤية هنا علميَّة، فكان من حقِّها أن تتعدَّى لاثنين، ولكنَّها ضمِّنت معنى ما يتعدَّى بإلى. والمعنى: ألم ينته علمك إلى كذا. وقال الرَّاغب: " رأيت: يتعدَّى بنفسه دون الجارِّ، لكن لما استعير قولهم: " ألم تَرَ " بمعنى ألم تنظر؛ عدِّي تعديته، وقلَّما يستعمل ذلك في غير التقدير، لا يقال: رأيت إلى كذا ". وقرأ السُّلمي: " تَرْ " بسكون الرَّاء، وفيها وجهان: أحدهما: أنه توهَّم أنَّ الراء لام الكلمة، فسكَّنها للجزم؛ كقوله: [الرجز]
1152- قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا
وَاشْتَرْ فَعَجِّلْ خَادِماً لَبِيقَا
وقيل: هي لغة قومٍ، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلَّة. والثاني: أنه أجرى الوصل مجرى الوقف، وهذا أولى، فإنَّه كثيرٌ في القرآن؛ نحو: " الظُّنُونَا " ، و " الرَّسُولاَ " ، و " السَّبِيلاَ " ، و " لَمْ يَتَسَنَّهُ " ، و " بِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ " وقوله: " وَنُصْلِهِ " ، و " نُؤْتِهِ " ، و " يُؤَدِّه " ، وسيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى. قوله: " وَهُمْ أُلُوفٌ " مبتدأٌ وخبرٌ، وهذه الجملة في [موضع] نصب على الحال، وهذا أحسن مجيئها، إذ قد جمع فيها بين الواو والضمير، و " أُلوفٌ " فيه قولان: أظهرهما: أنه جمع " ألْف " لهذا العدد الخاصِّ، وهو جمع الكثرة، وجمع القلّة: آلاف كحمول، وأحمال. والثاني: أنه جمع " آلِف " على فاعل كشاهدٍ وشهود، وقاعدٍ وقُعودٍ، أي: خرجوا وهم مؤتلفون، قال الزَّمخشريُّ: " وهذا من بِدَع التَّفاسير ". قوله تعالى: { حَذَرَ ٱلْمَوْتِ } أي من خوف الموت وهو مفعولٌ من أجله، وفيه شروط النَّصب، أعني المصدرية، واتحاد الفاعل، والزمان.