الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَٰتِ وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ وَقُومُواْ للَّهِ قَٰنِتِينَ } * { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ }

قوله تعالى: " حَافِظُواْ ": في " فَاعَلَ " هنا قولان:

أحدهما: أنه بمعنى " فَعِلَ " ، كطارَقْتُ النَّعْلَ، وعاقَبْتُ اللصَّ، ولمَّا ضمَّن المحافظة معنى المواظبةِ، عدَّاها بـ " عَلَى ".

الثاني: أنَّ " فَاعَلَ " على بابها من كونها بين اثنين، فقيلَ: بين العبدِ وربِّه، كأنه قيل: احفَظْ هذه الصلاةَ يحفظْكَ اللهُ، وقيل: بين العبدِ والصلاةِ، أي: احفَظْها تَحْفَظْك. وحفظُ الصَّلاة للمُصلِّي على ثلاثة أوجهٍ:

الأول: أنها تحفظه مِنَ المعاصي؛ كقوله:إِنَّ ٱلصَّلَٰوةَ تَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنْكَرِ } [العنكبوت:45].

الثاني: تحفظه من البَلايا، والمِحَن؛ لقوله:وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ } [البقرة:45]، وقال الله:إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَيْتُمْ ٱلزَّكَٰوةَ } [المائدة:12] أي: معكم بالصَّبر، والحفظ.

الثالث: تحفظُه: بمعنى تشفعُ له؛ لأن الصلاة فيها القرآنُ؛ والقرآن يشفع لقارئه، وهو شافِعٌ مُشَفَّعٌ.

وقال أبو البقاء: ويكون وجوبُ تكرير الحِفْظ جارياً مجرى الفاعلين؛ إذْ كان الوجوبُ حاثّاً على الفعلِ، وكأنه شريكُ الفاعلِ للحفظ؛ كما قالوا فيوَاعَدْنَا مُوسَىٰ } [البقرة:51] فالوعدُ من اللهِ، والقَبُولُ من موسى بمنزلةِ الوعد؛ وفي " حَافِظُوا " معنى لا يُوجَدُ في " احْفَظُوا " وهو تكريرُ الحفْظِ وفيه نظرٌ؛ إذ المفاعلةُ لا تدُلُّ على تكريرِ الفعلِ ألبتةَ.

قوله تعالى: { وٱلصَّلاَةِ ٱلْوُسْطَىٰ } ذكر الخاصَّ بعد العامِّ، وقد تقدَّم فائدته عند قوله تعالى:مَن كَانَ عَدُوّاً لِلَّهِ } [البقرة:98] والوُسطى: فعلى معناها التفضيلُ، فإنها مؤنثةٌ للأوسطِ؛ كقوله - يمدح الرسول عليه والصلاة والسلام -: [البسيط]
1147- يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرّاً فِي مَفَاخِرِهِمْ   وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا
وهي [من] الوسط الذي هو الخيارُ، وليست من الوسطِ الذي معناه: متوسِّطٌ بين شيئين؛ لأنَّ فُعْلى معناها التفضيلُ؛ ولا يُبْنى للتفضيل، إلا ما يَقْبَلُ الزيادةَ والنقصَ، والوَسَطُ بمعنى العَدْل والخيارِ يقبلُهما بخلافِ المتوسِّطِ بين الشيئين؛ فإنه لا يَقْبَلُهما، فلا ينبني منه أفعلُ التفضيل.

وقرأ علي: " وَعَلَى الصَّلاَةِ " بإعادة حرفِ الجرِّ توكيداً، وقرأَتْ عائشةُ - رضي الله عنها - " وَالصَّلاَةَ " بالنصبِ، وفيها وجهان:

أحدهما: على الاختصاصِ، ذكرَه الزمخشريُّ.

والثاني: على موضع المجرورِ قَبْلَهُ؛ نحو: مَرَرْتُ بزيدٍ وَعَمْراً، وسيأتي بيانُه في المائدة - إن شاء الله تعالى -.

قال القرطبي: وقرأ أبو جعفر الواسطي " والصَّلاَةَ الوُسْطَى " بالنصب على الإِغراء أي: والْزَمُوا الصَّلاة الوُسْطَى وكذلك قرأ الحلواني، وقرأ قالُونُ، عن نافع " الوُصْطَى " بالصَّادِ؛ لمجاورَة الطاءِ؛ لأنهما مِنْ واحدٍ، وهما لغتان؛ كالصراط ونحوه.

فصل

لمّا ذكر الأحكام المتعلّقة بمصالح الدُّنيا مِنْ بيان: النكاح، والطلاقِ، والعُقُودِ، أتبعه بذكر الأَحكامِ المتعلِّقة بمصالح الآخرة.

وأَجمع المسلمون على وجوب الصلوات الخمس، وهذه الآيةُ تدلُّ على كونها خَمْساً؛ لأن قوله: { حَافِظُواْ عَلَى ٱلصَّلَوَاتِ } تدل على الثَّلاثة مِنْ حيثُ إِنَّ أَقلَّ الجمع ثلاثةٌ، ثم قال: { وٱلصَّلَٰوةِ ٱلْوُسْطَىٰ } يدلُّ على شيءٍ زائدٍ عن الثلاثة؛ وإلاَّ لزم التكرارُ، والأصلُ عدمهُ، ثم إنَّ الزَّائد يمتنع أَنْ يكون أربعةً، لأنها لا يبقى لها وسطى فلا بُدَّ وأَنْ ينضمَّ إلى تلك الثلاثة عددٌ آخرُ؛ حتى يحصلَ به للجموع واسطةٌ، وأقلُّ ذلك خمسةٌ، فدلَّت هذه الآيةُ على أن الصلوات المفروضات خمسٌ بهذا الطَّريق، وهذا الاستبدال إنما يتم، إذا قُلنا: إنَّ المراد من الوُسْطَى ما يكونُ وسطاً في العدد، لا ما يكون وسطاً بسبب الفضيلة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9