الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ }

قوله تعالى: { وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ } كقولهوَٱلْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ } [البقرة:228] فليُلْتفتْ إليه.

قال القرطبي: لما ذكر اللهُ تعالى النِّكاح والطَّلاق ذكر الولد؛ لأن الزَّوجين قد يفترِقانِ وثمَّ وَلَدٌ فالآية إِذن في المطلَّقاتِ اللاتي لهُنَّ أولادٌ من أزواجهنَّ، قاله السُّدِّيُّ، وغيره.

قال: " وَالوَالِدَاتُ " ولم يقل والزَّوجاتُ، لأن أُمَّ الطِّفل قد تكُونُ مَطَلَّقَةً والوالدُ والوالدةُ صفتان غالبتانِ، جاريتانِ مَجْرى الجوامد؛ ولذلك لم يُذْكر موصوفهما.

وقوله: " حَوْلَينِ " منصُوبٌ على ظرفِ الزمانِ، ووصفهما بكاملين دفعاً للتجوُّز، إِذْ قَد يُطْلَقُ " الحَوْلاَنِ " على الناقصين شهراً وشهرين، من قولهم أَقَامَ فلانٌ بمكان كذا حَوْلَين أو شهرين وإِنَّما أقامَ حَوْلاً وبعض الآخر، ومثله:فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ } [البقرة:203] ومعلومٌ أنه يتعجَّل في يومٍ، وبعض اليوم الثَّاني، والحَولُ مِنْ حال الشَّيءُ يحولُ إذا انقلب، فالحَوْلُ مُنقلب من الوقْتِ الأَول إلى الثاني. وسُمِّيت السنةُ حولاً؛ لتحوُّلها، والحَوْلُ أيضاً: الحَيْلُ، ويُقالُ: لا حول ولا قوةَ، ولا حَيْلَ وَلاَ قُوَّةَ.

فصل في تفسير " الوالدات "

في " الوَالِدَات " ثلاثةُ أقوال:

أحدها: أَنَّ المراد منهُ جميعُ الوَالِدَاتِ سواءٌ كُنَّ مطلقاتٍ، أو متزوِّجاتٍ لعُمُومِ اللَّفظِ.

الثاني: المرادُ مِنْهُ المطلقاتُ؛ لأَنَّه ذكر هذه الآية عقيب آية الطَّلاقِ، ومناسبتهُ من وجهين:

الأول: أنه إذا طُلِّقَت المرأةُ، فيحصلُ التباغض، فقد تُؤذِي المرأةُ الطفلَ لأَمرين: إِمَّا لأنَّ إيذاءَهُ يتضمَّنُ إيذاءَ الأَبِ، وإِمَّا لرغبتها في زوجٍ آخر فيفضي إلى إِهْمالِ أَمْرِ الطِّفْلِ.

الثاني: قال السُّدِّيُّ: ومما يدلُّ على أَنَّ المراد منه المطلقاتُ، قوله بعد ذلك: { وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ }. ولو كانت زوجةً، لوجب على الزَّوج ذلك مِنْ غير إرضاعٍ.

ويمكن الجوابُ عن الأَوَّل: أَنَّ هذه الآية مشتملةٌ على حُكم مستقلٍّ بنفسه، فلم يجب تعلُّقُها بما قبلها، وعن قول السديّ: أَنَّه لا يبعُدُ أَنْ تستحِقَّ المرأةُ قدراً مِنَ المالِ، لمكانِ الزوجيَّة، وقَدْراً آخر للإرضاع، ولا مُنافاة بين الأَمرينِ.

القول الثالث: قال الواحديُّ في " البَسيط " الأَولى أَنْ يحمل على الزوجاتِ في حالِ بقاء النكاحِ؛ لأن المُطلَّقة لا تستحقُّ إلاَّ الأجرة.

فإِنْ قيل: إذا كانت الزوجيةُ باقيةً، فهي مستحقةٌ للنفقة، والكُسْوةِ؛ بسبب النكاحِ سَوَاءٌ أَرْضَعت الولد، أَوْ لَمْ تُرضِعهُ، فما وجهُ تعليق هذا الاستِحقاق بالإِرضاع؟

قلنا: النفقةُ والكسوةُ يجبانِ في مُقابلةِ التمكين، فإذا اشتغلت بالحضانة والإرضاع ولم تتفرغْ لِخدمة الزوج، رُبَّما توهَّمَ مُتوهِّمٌ أَنَّ نفقتها وكسوتها تسقطُ بالخلل الواقع في خدمة الزوجِ؛ فقطعَ اللهُ ذلك الوَهْمَ بإيجاب الرِّزقِ إذا اشتغلت المرأَةُ بالرضاعِ.

فصل

هذا الكلامُ، وإِنْ كان خبراً فمعناه الأَمْرُ؛ وتقديره: يرضِعْنَ أَوْلادهنّ في حُكْمِ الله الذي أَوجبه؛ إِلاَّ أنه حذف ذلك للتصرف في الكَلامِ مع زوالٍ الإِيهامِ، وهو أَمرُ استحباب، لا إيجابٍ؛ لأنها لو وجب عليها الرضاعُ لما استحقتِ الأُجرة، وقد قال:

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد