الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ } * { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ }

اعلم أنه سبحانه لما أقام الدلائل القاطعة على إثبات الصّانع، وأبطل القول بالشريك عقبه بما يدلُّ على النبوة، ولما كانت نبوة محمد صلى الله عليه وسلم مبنية على كون القرآن معجزاً أقام الدلالة على كونه معجزاً. واعلم أن كونه معجزاً يمكن بيانه من طريقين:

الأول: ألا يخلو حاله من أحد وجوه ثلاثة:

إما أن يكون مساوياً لكلام الفصحاء، أو زائداً على كلام الفصحاء بقدر لا ينقض العادة، أو زائداً عليه بقدر ينقض العادة، والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث.

وإنما قلنا: إنهما باطلان؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يأتوا [بمثل سورة منه] إما مجتمعين، أو منفردين، فإذا وقع التَّنَازع، فالشهود والحكام مزيلون الشبهة وذلك نهاية الاحتجاج؛ لأنه كان من معرفة اللغة والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية، وكانوا في محبة إبطال أمره في الغاية حتى بذلوا النفوس والأموال، وارتكبوا المهالك والمحن، وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقلبون الحق، فكيف الباطل، وكل ذلك يوجب الإتيان بما يقدح في قوله، فلما لم يأتوا بمثلها علمنا عجزهم عنها، فثبت أن القرآن لا يماثل قولهم، وأنَّ التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتاً معتاداً، فهو إذن تفاوت ناقض للعادة، فوجب أن يكون معجزاً.

واعلم أنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثيرة، تدلُّ على أنه أبلغ في الفصاحة النهاية التي لا غاية لها:

أحدها: أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات مثل وصف بعير، أو فرس، أو جارية، أو ملك، أو ضربة، أو طعنة أو وصف حرب، أو وصف غارة، وليس في القرآن شيء من هذا، فكان يجب على هذا ألا يحصل فيه شيء من الفصاحة، التي اتفقت العرب في كلامهم عليها.

وثانيها: أنه - تعالى - راعي فيه [طريقة] الصِّدق، وتنزَّه عن الكذب في جميعه، وكل شاعر ترك الكذب، ولزم الصدق زكي شعره، ألا ترى لبيد بن ربيعة، وحسان بن ثابت لما أسلما زكي شعرهما، [ولم يكن شعرهما] الإسلامي في الوجوه كشعرهما في الجاهلية، والقرآن مع لزوم الصدق وتنزُّهه عن الكذب بلغ الغاية في الفصاحة كما ترى.

وثالثها: أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح في القصيدة كلها، إنما هو بيت أو بيتان والباقي ليس كذلك، وأما القرآن فكله فصيح، فعجز الخلق عن بعضه كما عجزوا عن جملته.

ورابعها: أن كل من وصف شيئاً بشعر، فإن كرره لم يكن كلامه الثَّاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول، وأما القرآن ففيه تكرار كثير، وهو في غاية الفَصَاحة، ولم يظهر التفاوت أصلاً.

وخامسها: أنهم قالوا: شعر امرىء القيس يحسن عند الطَّرب، وذكر النِّسَاء، وصفة الخَيْلِ، وشعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطَّلَبِ، ووصف الخَمْرِ، وزهير عند الرَّغْبَةِ والرجاء، وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فَنٍّ، ويضعف كلامه في غيره، والقرآن جاء فصيحاً في كل الفنون.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد