الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلاَ تَجْعَلُواْ ٱللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ وَتُصْلِحُواْ بَيْنَ ٱلنَّاسِ وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } * { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱلَّلغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَٱللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ }

اللامُ في قوله { لأَيْمَانِكُمْ } تحتملُ وجهين:

أحدهما: أن تكونَ مقويةً لتعديةِ " عُرْضَةً " ، تقديره: ولا تجعلوا اللهَ معدَّى ومَرْصَداً لحَلْفِكُمْ.

والثاني: أن تكونَ للتعيلِ، فتتعلَّقَ بفعلِ النهيِ، أي: لا تَجْعَلُوهُ عُرْضَةً لأجْلِ أَيْمَانِكُمْ.

قوله: { أَن تَبَرُّواْ } فيه ستةُ أوجهٍ:

أحدها:ـ وهو قول الزجاج، والتِّبريزي، وغيرهما ـ: أنها في محلِّ رفع بالابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ، تقديرُه: أَنْ تَبَرُّوا وتتقُوا وتُصْلِحُوا خَيْرٌ لكُمْ مِنْ أَن تجعلُوه عُرْضَةً لأَيْمانكم، أو بِرُّكُمْ أولى وأمثَلُ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى انقطاعِ هذه الجملةِ عمَّا قبلها، والظاهرُ تعلُّقُها به.

الثاني: أنَّها في محلِّ نصبٍ على أنها مفعولٌ من أجله، وهذا قولُ الجمهورِ، ثم اختلفوا في تقديرِه: فقيل: إرادةَ أنْ تَبَرُّوا وقيلَ: كراهةَ أن تَبَرُّوا، قاله المهدويُّ، وقيل: لِتَرْكِ أَنْ تَبَرُّوا، قاله المبرِّدُ، وقيل: لئَلاَّ تَبَرُّوا، قاله أبو عبيدة والطَّبريُّ؛ وأنشدا: [الطويل]
1083-... فَلاَ واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً   ........................
أي: لا تَهْبِطُ، فحذف " لاَ " ومثلُه:يُبَيِّنُ ٱللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [النساء:176]، أي: لئلا تضِلُّوا، وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ، وذلك أن التقاديرَ التي ذكرناها بعد تقدير الإِرادة لا يظهرُ معناها؛ لمَا فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِرِّ، بل وقوع الحَلْفِ مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه، " إِنْ حَلَفْتَ بالله، بَرَرْتَ " لم يصحَّ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة؛ فإنه يُعَلَّل امتناع الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ تقول: إِنْ حَلَفْتَ، لم تَبَرَّ، وإنْ لم تَحْلِفْ، بَرَرْتَ.

الثالث: أنَّها على إسقاط حرف الجرِّ، أي: في أَنْ تَبَرُّوا؛ وحينئذٍ: يَجِيء فيها القولان: قولُ سيبويه والفراء فتكون في محلِّ نصبٍ، وقولُ الخليل والكسائيّ، فتكونُ في محلِّ جرٍّ، وقال الزمخشري: ويتعلَّقُ " أَنْ تَبَرُّوا " بالفعل أو بالعُرْضَةِ، أي: " ولا تَجْعَلُوا اللهَ لأَجْلِ أَيْمَانِكُمْ عُرْضَةً لأنْ تَبَرُّوا ". قال أبو حيان: وهذا التقديرُ لا يصحُّ للفصل بين العامل ومعمولهِ بأجنبيٍّ، وذلك أنَّ " لأَيْمَانِكُمْ " عنده متعلقٌ بـ " تَجْعَلُوا " ، فوقع فاصلاً بين " عُرْضَةً " التي هي العاملُ وبين " أَنْ تَبَرُّوا " الذي هو معموله وهو أجنبيٌّ منهما، ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ: " امْرُرْ وَاضْرِبْ بِزَيْدَ هِنْداً " ، وهو غيرُ جائزٍ، ونَصُّوا على أنه لا يجوزُ: " جَاءَني رَجُلٌ ذُو فَرَسٍ رَاكِبٌ أَبْلَقَ " أي رجلٌ ذُو فَرَسٍ أَبْلَقَ راكِبٌ لِما فيه من الفصلِ بالأجنبيِّ.

الرابع: أنها في محلِّ جَرٍّ؛ عطفَ بيانٍ لـ " أَيْمَانِكُمْ " ، أي: للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوَى والإِصلاح كما في الحديث. قال أبو حيان: " وهو ضعيفٌ لما فيه من جَعْلِ الأيمانِ بمعنى المَحْلُوفِ عليه " ، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِرَ من كَوْنها بمعنى المَحْلُوفِ عليه؛ إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ، وهذا بخلافِ الحديثِ، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8