الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أَنَّىٰ شِئْتُمْ وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ وَبَشِّرِ ٱلْمُؤْمِنِينَ }

{ نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ }: مبتدأٌ وخبرٌ، ولا بدَّ من تأويلٍ، ليصحَّ الإخبار عن الجثة بالمصدر، فقيل: على المبالغة، جُعلوا نفس الفعل، وقيل: أراد بالمصدر، اسم المفعول، وقيل: على حذف مضافٍ من الأوَّل، أي: وطء نسائكم حرثٌ، أي: كحَرْثٍ، وقيل: من الثاني، أي: نساؤُكُم ذواتُ حَرْثٍ، و " لَكُمْ " في موضع رفعٍ؛ لأنه صفةٌ لـ " حَرْث " ، فيتعلَّق بمحذوفٍ، وإنما أفرد الخبر، والمبتدأ جمعٌ؛ لأنه مصدرٌ والأفصح فيه الإفراد.

قوله: { أَنَّىٰ شِئْتُمْ } ، ظرف مكانٍ، ويستعمل شرطاً واستفهاماً بمعنى " مَتَى " ، فيكون ظرف زمانٍ، ويكون بمعنى " كَيْفَ " ، وبمعنى " مِنْ أَيْنَ " ، وقد فسِّرت الآية الكريمة بكلٍّ من هذه الوجوهِ، وقال النحويون: " أَنَّى " لتعميم الأحوال، وقال بعضهم: إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمْرٍ له جهاتٌ، فَهِيَ على هذا أعمُّ مِنْ " كَيْفَ " ، ومِنْ " أَيْنَ " ، ومِنْ " مَتَى " ، وقالوا: إذا كانت شرطيةً، فهي ظرف مكانٍ فقط، واعمل أنها مبنيةٌ؛ لتضمُّنها: إمَّا معنى حرف الشرط، والاستفهام، وهي لازمة النصبِ على الظرفية، والعامل فيها هنا قالوا: الفعل قبلها وهو: " فَأْتُوا " قال أبو حيان: وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّها إمَّا شرطية أو استفهاميةٌ، لا جائزٌ أن تكون شرطيةً؛ لوجهين:

أحدهما: من جهة المعنى، وهو أنَّها إذا كانت شرطاً، كانت ظرف مكانٍ، كما تقدَّم؛ وحينئذٍ: يقتضي الكلام الإباحة في غير القبل، وقد ثبت تحريم ذلك.

والثاني: من جهة الصناعة، وهو أنَّ اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، بل يعمل فيه فعل الشرط؛ كما أنه عاملٌ في فعل الشرط الجزم، ولا جائزٌ أن تكون استفهاماً؛ لأنَّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، ولأنَّ " أَنَّى " إذا كانت استفهاميةً، اكتفت بما بعدها من فعلٍ واسم، نحو:أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } [الأنعام:101]أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا } [آل عمران:27] وهذه في هذه الآية مفتقرة لما قبلها كما ترى، وهذا موضع مشكل يحتاج إلى تأملٍ ونظر.

ثم الذي يظهر: أنها هنا شرطيةٌ، ويكون قد حذف جوابها؛ لدلالة ما قبله عليه، تقديره: أنَّى شئتم، فأتوه، ويكون قد جعلت الأحوال فيها جَعْلَ الظروف، وأُجريت مجراها، تشبيهاً للحال بظرف المكان؛ ولذلك تقدَّر بـ " في " ، كما أُجريت " كَيْفَ " الاستفهامية مجرى الشرط في قوله:يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } [المائدة:64] وقالوا: كيف تصنع أصنع، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً؛ فيكون ثمَّ حذفٌ في قوله: " يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ " ، أي: كيف يشاء يُنْفِق، وهكذا كل موضعٍ يشبهه، وسيأتي له مزيد بيانٍ، فإن قلت: قد أخرجت " أنَّى " عن الظرفية الحقيقية، وجعلتها لتعميم الأحوال مثل " كَيْفَ " وقلت: إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرط، فهل الفعل بعدها في محلِّ جزمٍ، اعتباراً بكونها شرطيةً، أو في محلِّ رفع، كما تكون كذلك بعد " كَيْفَ " التي تستعمل شرطية؟ قلت: تحتمل الأمرين، والأرجح الأول؛ لثبوت عمل الجزم؛ لأنَّ غاية ما في الباب تشبيه الأحوال بالظروف، للعلاقة المذكورة، وهو تقدير " في " في كلٍّ منهما.

السابقالتالي
2 3 4 5