الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَٰفِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ كَذٰلِكَ يُبيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } * { فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْيَتَامَىٰ قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ ٱلْمُفْسِدَ مِنَ ٱلْمُصْلِحِ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ }

قوله: { عَنِ ٱلْخَمْرِ وَٱلْمَيْسِرِ } لا بدّ فيه من حذف مضاف إذ السُّؤال عن ذاتي الخمر والميسر غير مرادٍ، والتَّقدير: عن حكم الخمر والميسر.

الخمر: هو المعتصر من العِنَبِ إذا غلى، وقذف بالزَّبد، ويطلق على ما غلى، وقذف بالزَّبد من غير ماء العنب مجازاً.

وفي تسميتها " خَمْراً " أربعة أقوال:

أشهرها: أنَّها سمِّيت بذلك؛ لأنها تخمر العقل، أي: تستره، ومنه: خمار المرأة لستره وجهها، والخمر: ما واراك من شجر، وغيره من وهدةٍ، وأكمة، والخامر هو الذي يكتم شهادته؛ [و: " خَامِري حضَاجِرُ، أتاك ما تُحَاذِرُ " يُضْرَبُ للأحمق، وحَضَاجِرُ: علمٌ للضبع، أي: استتر عن النَّاس، ودخل في خمار النَّاس، وغمارهم].

ومنه يقال: " أخمرت الأَرْضُ " كثر خمرها - بفتح الميم - الشَّجَرُ الملتفُّ.

قال: [الوافر]
1065- أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرا   فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ
أي: ما يستركما من شجرٍ وغيره، وقال العجَّاج يصف مسير جيش طاهر بن أبان:

[الرجز]
1066-في لاَمِعِ العِقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمَرْ   
والثاني: لأنَّها تغطَّى حتّى تدرك وتشتدَّ، فهو من التَّغطية ومنه " خَمِّروا آنيتكم ".

والثالث: - قال ابن الأنباري من المخالطة - لأنَّها تخامر العقل، أي: تخالطه، يقال: خامره الدَّاء، أي: خالطه.

وأنشد لكثير: [الطويل]
1067- هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ   ...........................
ويقال: خَامَرَ السّقام كبده. فهذه الاشتقاقات دالَّة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل، كما سمِّيت مسكراً؛ لأنَّها تسكر العقل أي: تحجزه.

والرابع: لأنَّها تترك حتى تدرك، ومنه: " اخْتَمَرَ العَجِينُ " أي: بلغ إدراكه، وخمر الرَّأي، أي: تركه، حتَّى ظهر له فيه وجه الصَّواب، وهي أقوال متقاربةٌ. وعلى هذه الأقوال تكون الخمر في الأصل مصدراً مراداً به اسم الفاعل واسم المفعول.

فصل

قال أبو حنيفة: الخمرُ: هو ما كان من عصير العنب وغيره.

حجّة أبي حنيفة: قوله تعالى:وَمِن ثَمَرَاتِ ٱلنَّخِيلِ وَٱلأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [النحل:67] فمنَّ الله تعالى علينا باتخاذ السَّكر، والرِّزق الحسن؛ فوجب أن يكون مباحاً؛ لأنَّ المنَّة لا تكون إلاَّ بالمباح.

" وروى ابن عبَّاس أنَّه - عليه السَّلام - أتى السِّقاية عام حجَّة الوداع، فاستند إليها وقال: اسقوني، فقال العبَّاس: لنسقينَّك ممَّا ننبذُهُ في بيوتنا؟ فقال: " مِمّا يُسْقَى النَّاسُ " فجاءه بقدح من نبيذ؛ فشمَّه فقطب وجهه وردَّه، فقال العبَّاس: يا رسول الله أفسدت على أهل مكَّة شرابهم. فقال: " رَدُّوا عَلَيَّ القَدَحَ " فردُّوه عليه؛ فدعا بماء زمزم؛ فصبّ عليه وشَرِبَ وقال: " إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الأَشْرِبَة فَاقْطَعُوا نتنها بالمَاءِ " ".

وجه الاستدلال به: أن التقطيب لا يكون إلاَّ من الشَّديد، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدَّة بالنَّصِّ، ولأنَّ اغتلام الشَّراب شدَّته، كاغتلام البعير سكره.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد