الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ }

لمَّا وصفَ في الآية المتقدِّمة حال مَنْ يبذلُ دِينَهُ لطلب الدُّنْيَا ذكر في هذه الآيةِ حالَ من يبذلُ دِينَه ونفسَهُ لطلب الدين، وفي سبب النزول رِوايات.

إحداها: عن ابن عبَّاسٍ، والضَّحَّاكِ: أَنَّها نزلَتْ فِي سريَّة الرَّجيع، وذلك أَنَّ كُفّار قريشٍ بعثوا إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بالمدينةِ، أَنَّا قد أَسلمنَا، فابعَثْ إلينا نَفَراً من علماءِ أَصْحابك؛ يُعَلِّمُوننَا دِينك، وكان ذلك مَكْراً مِنْهم فبعث إليهم خُبَيْبَ بن عديٍّ الأَنْصَارِيُّ وَمَرثد بن أبي مَرْثدٍ الغَنَويَّ، وخالد بن بُكَيرٍ، وعبد اللَّهِ بن طارِق بن شهابٍ البَلويَّ، وزيدَ بنَ الدَّثِنَّةِ، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِت بن أبي الأَقلَحِ الأَنْصَارِيّ.

قال أبو هريرة: بعثَ رسولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - عشرةً عَيْناً، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِتِ بنِ أَبي الأَقْلح الأَنصَاريَّ فسَارُوا، فَنَزلُوا بَطْنَ " الرَّجِيعِ " بين مَكَّةَ والمَدِينةِ، ومعهم تَمْرُ عَجْوَةٍ، فأكلوا فمرَّتْ عجوزٌ، فأبصرت النَّوَى، فرجعت إلى قومها بمكة، وقالت: قد سَلَكَ هذا الطريقَ أهلُ يثرِبَ مِنْ أَصْحابِ مُحمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم - فركِبَ سبعُونَ رَجُلاً منهم معهم الرِّماحُ، حتى أَحَاطُوا بهم.

وقال أبو هريرة: ذكروا الحيَّ من هُذَيل يقالُ لهم بنو لحيان، فنَفَرُوا لهم بقريب مِنْ مائة راجلٍ رامٍ، فَاقتَفوا آثارَهُم، حتَّى وجدوا مآكلهم التمر في منزلٍ نزلُوه؛ فقالوا: تَمْرُ يَثْرِبَ، فاتَّبعُوا آثارَهم، فلمَّا أَحَسَّ بهم عاصِمٌ وأصحابُه لجأوا إلى فَدْفَد، فأحاط بهم القومُ، فقتلوا مَرْثَداً وخَالِداً وعبد اللَّهِ بن طارقٍ، ونثر عاصِمُ بنُ ثابتٍ كنانَتَهُ، وفيها سبعة أَسهُمٍ، فقتل بكُلِّ سَهْمٍ رَجُلاً مِنْ عُظَماءِ المُشْرِكينَ، ثُمَّ قال: اللَّهُمَّ، إِنِّي قد حميتُ دِينك صدْرَ النهارِ فاحْمِ لَحْمِي آخر النهارِ، ثُمَّ أَحاطَ به المشركُونَ فقتلُوه، فَلَمَّا قتلوه أَرَادُوا جَزَّ رَأْسِهِ؛ ليبيعُوه من سُلاَفة بنت سعد بن شهيد، وكانت قد نَذَرتْ حين أصاب ابنها يومَ أُحُد لَئِنْ قدرتْ على رأسِ عاصم لتشربنَّ في قِحْفه الخمرَ، فأرسل الله رجلاً من الدَّبْرِ، وهي الزَّنابِيرُ، فحمتْ عاصِماً، فلم يقدِرُوا عليه، فسُمِّي حميَّ الدَّبْرِ، فقالوا: دعوه حتى نُمْسِيَ، فتذهب عنه، فنأْخُذَه، فجاءت سَحَابَةٌ سوداءُ، وأمطرتْ مطراً كالغزالِ فبعث اللَّهُ الوادي غديراً فاحتمَل عاصِماً به فذهب به إلى الجَنَّة، وحَمَل خَمسِين من المشركينَ إلى النار.

وكان عاصِمٌ قد أَعْطى اللَّهَ عَهْداً ألاَّ يمسَّهُ مُشْركٌ ولا يَمَسَّ مُشْركاً أبداً، فمنعه اللَّهُ، وكان عُمَر بنُ الخطَّاب يقولُ حين بلغه أَنَّ الدَّبْرَ منعتهُ: عجباً لحِفظ اللَّهِ العَبْدَ المؤمِنَ، كان عاصِمٌ نَذَرَ ألاَّ يَمَسَّهُ مشركٌ، ولا يمسَّ مُشرِكاً أبداً، فمنعه اللَّهُ بعد وفاتِه، كما امتنع عاصم في حياته، وأسر المشركون خُبَيْب بن عديٍّ، وزيد بنَ الدَّثِنَّةٍ، فذهبوا بهما إلى مكةَ، فأمَّا خُبَيْبٌ فابتاعه بنو الحارث بن عامرٍ بن نَوفل بن عبدَ مُناف؛ ليقتلُوه بأبيهم، وكان خُبيب هو الذي قتل الحارِثَ يومَ بدرٍ، فلبث خُبَيبٌ عندهم أسيراً، حتَّى أجمعوا على قتلِه، فاستعار مِنْ بعض بنات الحارثِ مُوسى ليستحِدَّ بِهَا، فأعارتهُ، فدرج بُنيٌّ لها، وهي غافِلةٌ، فما راعَ المرأةَ إلاَّ خبيبٌ قد أَجْلَسَ الصَّبِيَّ على فَخذِهِ، والمُوسى بيده، فصاحت المرأةُ، فقال خبيبٌ: أَتَخْشِينَ أن أَقْتُلَهُ؟ ما كنت لأفعل ذلك، إنّ الغدر ليس مِنْ شَأنِنا، فقالت المرأةُ: واللَّهِ ما رأيْتُ أسيراً خيراً من خُبَيْبٍ؛ واللَّهِ لقد وجدتُه يوماً يأكُلُ قطفاً من عِنَبٍ في يَدِهِ، وإنه لموثقٌ بالحديدِ، وما بمكة من ثَمرةٍ، إن كان إلاَّ رِزْقاً رزقه اللَّهُ خُبَيْباً، ثم إِنَّهم خرجوا به من الحرم ليقتُلُوه في الحِلِّ، وأَرَادُوا أَنْ يصلبُوهُ، فقال لهم خبَيبٌ: دعوني أُصَلِّي ركعتَينِ؛ فتركوه، فكان خُبَيْبٌ هو الذي سَنَّ لكل مُسْلم قُتِلَ صَبْراً الصلاةَ، فركع ركعتين، ثُمَّ قال خَبَيْبٌ: لولا أَنْ يَحْسَبُوا أنَّ ما بي من جزعٍ لزدْتُ، اللهمَّ أَحْصِهم عَدَداً؛ وَاقْتُلهم بَدَداً، ولا تُبْقِ منهم أَحَداً وأنشأ يقولُ: [الطويل]

السابقالتالي
2 3 4 5