الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي ٱلآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ } * { وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } * { أُولَـٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

اعلم أن " قَضَى " إذا عُلِّق بفعل النَّفْس، فالمرادُ منه الإِتْمَام والفَرَاغ؛ كقوله تعالى:فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمٰاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ } [فصلت: 12]فَإِذَا قُضِيَتِ ٱلصَّلَٰوةُ } [الجمعة: 10]، وقوله - عليه السلام -: " وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا " ، ويقال للحَاكِم عند فصل الخُصُومَةِ، قَضَى بينهما. وإذا عُلِّق على فِعْل الغَيْر، فالمراد به الإِلْزَام، كقوله:وَقَضَىٰ رَبُّكَ } [الإسراء: 23] وإذا اسْتُعْمِل في الإعلامِ، فالمراد أيضاً كذلك؛ كقوله:وَقَضَيْنَآ إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ } [الإسراء: 4]، أي: أعْلَمْنَاهُم، وهذه الآية الكريمة من القِسم الأوَّل.

وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المُرَادُ: اذكُرُوا الله عِنْد المَنَاسِك، ويكون المُرَادُ من هذا الذَّكرِ: ما أُمروا به من الدُّعَاءِ بعَرَفاتٍ والمشعر الحَرَام والطَّواف والسَّعي؛ كقول القائل: إذا حَجَجْتَ فَطُف وقف بعرَفَة، ولا يُريد الفراغ من الحَجِّ، بل الدُّخُول فيه، وحَمَلهُم على التَّأْويل صيغة الأَمْر.

والمَنَاسِكُ، جمعُ " مَنْسِكٍ " بفتح السين وكسرِها، وسيأتي تحقيقُها، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً، والقُرَّاء على إظهار هذا، ورُوِي عن أبي عمرو الإِدغامُ، قالوا: شَبَّه حركة الإِعرابِ بحركةٍ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام، وأدغم أيضاً " مَنَاسِككمْ " ولم يُدْغِمْ ما يُشْبِهُهُ من نحو:جِبَاهُهُمْ } [التوبة: 35] ووُجُوهُهُمْ } [آل عمران: 106].

قال بعض المُفسِّرين: إن جعلها جمع " مَنْسَك " الذي هو المَصْدَر بمنزلة النُّسُك، فالمراد: إذا قضيتم عبادتكُم الَّتِي أُمِرْتُمْ بها في الحَجِّ، وإن جَعَلْتَها جمع " مَنْسَك " الذي هو مَوْضع العِبادة، فالتَّقدير: فإذا قَضَيْتُم أعمال مناسِكِكُم، فيكون من باب حَذْفِ المُضَاف.

إذا عُرِفَ هذا؛ فنقول: قال بعضهم: المراد بالمَنَاسِكِ ما أَمَر اللهُ - تعالى - به في الحَجِّ من العِبَادَاتِ، وقال مُجاهد: قضاء المَنَاسِكِ: إراقَةُ الدِّمَاء، يقال: أنسَك الرجل يَنْسُك نُسْكاً، إذا ذبح نسِيكته بعد رَمْي جمرة العقبة والاستقرار بمِنًى، والفَاءُ في قوله: { ٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ } تدلُّ على أنَّ الذِّكْر يجب عقيب الفراغ من المَنَاسِك؛ فلذلك اخْتَلَفُوا.

فمنهم من حمله على التكبير بعد الصَّلاَة يَوْم النَّحْر وأَيَّام التَّشْريق - على حسبِ اختِلاَفهم في وقته - أن بعد الفراغ من الحَجَّ لا ذِكْر مَخْصُوص إلاَّ التكبِير.

ومنهم من قال: بل المُراد تحويلُ القَوْم عمّا اعتَادُوهُ بعد الحَجِّ من التَّفَاخُر بالآباء؛ لأنه تعالى لو لم يَنْه عنه بهذه الآية الكريمة، لم يَعْدلُوا عن هذه الطَّرِيقة.

ومنهم من قال: بل المُراد منه أنّ الفَراغَ من الحَجِّ يوجِبُ الإِقبَال على الدُّعاء والاستغفار؛ كما أن الإِنْسَان بعد الفَراغ من الصَّلاة يُسَنُّ أن يشتغل بالذِّكر والدُّعاء.

قوله: { كَذِكْرِكُمْ ءَابَآءَكُمْ } الكافُ كالكاف في قولهكَمَا هَدَاكُمْ } [البقرة: 198] إلاَّ في كونها بمعنى " عَلَى " أو بمعنى اللام، فَلْيُلتفتْ إليه، والجمهورُ على نصب " آبَاءَكُمْ " مفعولاً به، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل، وقرأ محمدُ بنُ كعبٍ: " آبَاؤكُمْ " رفعاً، على أنَّ المصدرّ مضافٌ للمفعولِ، والمعنى: كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه، ورُوِيَ عنه أيضاً: " أَبَاكُمْ " بالإِفراد على إرادة الجنسِ، وهي توافِقُ قراءةَ الجماعة في كونِ المصدر مضافاً لفاعله، ويَبْعُدُ أن يقال: هو مرفوعٌ على لغةِ مَنْ يُجْرِي " أَبَاكَ " ونحوَهُ مُجْرَى المقْصورِ.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9