الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَٰتٍ فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ عِندَ ٱلْمَشْعَرِ ٱلْحَرَامِ وَٱذْكُرُوهُ كَمَا هَدَٰكُمْ وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ ٱلضَّآلِّينَ }

قوله { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } " أَنْ " في محلِّ نَصْبٍ في مَوْضعين عند سيبويه والفراء، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأَخْفَشِ؛ لأنَّها على إضمارِ حَرْفِ الجَرِّ، أي: في أَنْ، وهذا الجارُّ متعلِّقٌ: إمَّا بجُناح؛ لما فيه مِنْ مَعْنَى الفِعْلِ وهو الميلُ والإِثمُ، وما كانَ في معناهُمَا، وإمَّا بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ لـ " جُناح " فيكونُ مرفوعَ المحلِّ، أي: جناحٌ كائنٌ في كذا.

ونقل أبو البقاء رحمه الله تعالى عن بعضهم، أنه متعلقٌ بـ " ليس " ، واسْتضْعَفُه. قال شهاب الدِّين: بل يُحْكَمُ بتخطئته ألبتة.

قوله: " مِنْ رَبِّكُمْ " يجوزُ أَنْ يتعلَّق بتبتغوا فيكون مفعولاً له، وأَنْ يكون صِفَةٌ لـ " فضلاً " ، فيكون منصوب المَحَلِّ، مُتَعَلِّقاً، بمحذوفٍ. و " منْ " في الوجهين لابْتِدَاء الغاية، لكن فى الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مُضافٍ أي: كَائناً مِنْ فُضولِ ربكم.

فصل

قوله تعالى: { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ } يدلُّ على أنّ شُبْهَةً قَامَتْ عندهم في تحريم التجارة من وجوهٍ:

أحدها: أنَّه تبارك وتعالى منع الجِدَال في الحجِّ، والتِّجَارةُ كثيرةُ الإفضاءِ إلى المُنازعَةِ في قلَّة القِيمَةِ وكثرتِهَا؛ فوجَبَ أَنْ تكونَ التجارة مُحَرَّمةً.

ثانيها: أنّ التجارة كانت مُحرمةً في وقت الحج في الجاهليةِ، وذلك شيءٌ، حسَنٌ؛ لأن المشتغل بالحج مشتغلٌ بخدمةِ الله تعالى، فوجب ألاَّ يَشُوبَ هذا العملَ بالأطماعِ الدُّنيويَّةِ.

وثالثها: أنّ المسلمين عَلِمُوا أنّ كثيراً من المباحاتِ صارت مُحرمةً عليهم في الحج: كاللّبسِ، والاصْطِيَادِ، والطِّيبِ، والمباشرة، فغلب على ظنِّهم أنَّ الحجَّ لمَّا صار سبباً لحرمةِ اللبسِ مع الحاجَةِ إليه، فأَوْلَى منه تحريمُ التجارةِ؛ لقلة الاحتياج إليها.

ورابعها: عند الاشتغال بالصلاةِ يَحْرُمُ الاشتغالُ بالتجارةِ؛ قال تعالى:إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَٰوةِ مِن يَوْمِ ٱلْجُمُعَةِ فَٱسْعَوْاْ إِلَىٰ ذِكْرِ ٱللَّهِ وَذَرُواْ ٱلْبَيْعَ } [الجمعة: 9] فلهذا السبب، بيّن اللَّهُ تعالى - هاهنا - أنَّ التجارةَ جائزةٌ غير مُحَرَّمةٍ.

فإذا عُرِفَ هذا، فذكر المفَسِّرُونَ في قوله: { أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ } وجهين:

الأوَّل: أَنَّ المراد هو التجارة؛ نظيره قوله تعالى:وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ } [المزمل: 2] وقوله:جَعَلَ لَكُمُ ٱلْلَّيْلَ وَٱلنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِنْ فَضْلِهِ } [القصص: 73] ويدُلُّ عليه ما رَوَى عَطاءٌ عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ وابن الزُّبير أنّهم قرأوا: " أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَواسِمِ الحَجِّ ".

وقال ابن عباسٍ: كان ناسٌ من العرب يَحْتَرِزُونَ مِنَ التجارةِ في أيَّامِ الحَجِّ، وإذا دَخَلَ العَشْرُ، بالغوا في تَرْك البيع والشِّراء بالكلية، وكانوا يُسَمّون التاجر في الحج الدَّاجَّ، ويقُولون: هؤلاء الدَّاجُّ، وليسوا بالحاجِّ. ومعنى الدَّاجّ: المُكتسب الملْتَقِط، وهو مشتقٌّ من الدَّجاجة وبلغُوا في الاحتراز عن الأعمال إلى أن امتَنَعُوا من إِغاثةِ الملهُوفِ والضعيفِ وإِطعام الجائع؛ فأزال اللَّهُ هذا الوَهْمُ وبيّن أنّه لا جُناح في التجارة، ولما كان ما قَبْل هذه الآية في أحكامِ الحج، وما بعدها في الحج، وهو قوله تعالى: { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ } دَلّ ذلك على أَنَّ هذا الحكمَ واقِعٌ في زمان الحجِّ؛ فلهذا السبب استغني عن ذكره.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد