الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى ٱلتَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُحْسِنِينَ }

اعلم أنَّ تعلُّق هذه الآية الكريمة بما قبلها من وجهين:

الأول: أنَّه تعالى، لمَّا أمرهُ بالقتالِ وهو لا يتيسَّر إلاَّ بآلاتٍ وأدواتٍ يحتاجُ فيها إلى المال، وربَّما كان ذو المالِ عاجزاً عن القتال، وكان الشُّجاع القادرُ على القتال عديم المال فقيراً، فلهذا أمر اللَّهُ تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفُقراء الَّذين يقدرون على القتال.

والثاني: يروى أنَّه لمَّا نزَلَ قولُهُ تعالى:ٱلشَّهْرُ ٱلْحَرَامُ بِٱلشَّهْرِ ٱلْحَرَامِ وَٱلْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ } [البقرة: 194] قال رجلٌ من الحاضرين: واللَّهِ، يا رسول الله ما لَنَا زادٌ، وليس أحدُ يُطْعمنَا؛ فأمر رسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدَّقوا وألاَّ يكفُّوا أيديهم عن الصَّدقة، ولو بشقِّ تمرةٍ تُحملُ في سبيل الله فيهلكوا، فنزلت الآية الكريمة على وفق رسول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم -.

والعلم: أنَّ الإنفاقَ هو صرفُ المالِ إلى وجوه المصالحِ؛ فلذلك لا يُقالُ في المُضَيِّع: إنَّه مُنفقٌ، وإذا قُيِّد الإنفاقُ بذكر " سَبِيلِ اللَّهِ " ، فالمرادُ به في طريق الدِّين؛ لأنَّ السَّبيل هو الطريقُ، وسبيلُ الله هو دينُهُ، فكلُّ ما أمر الله تعالى به من الإنفاق في دينِهِ، فهُوَ داخِلٌ في الآية الكريمة، سواءٌ كان في حجٍّ، أو عُمرةٍ، أو كان جهاداً بالنَّفس أو تجهيزاً للغير أو كان إنفاقاً في صلة الرَّحم، أو في الصَّدقات، أو على القتالِ، أو في الزَّكاةِ، أو الكَفَّارة، أو في عمارة السَّبيل، وغير ذلك، إلاَّ أنَّ الأقربَ في هذه الآية الكريمة ذكرُ الجهاد، فالمرادُ هاهنا الإنفاقُ في الجهاد؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة، إنَّما نزلت وقت ذهاب رسُول الله - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - لعُمرة القضاء، وكانت تلك العُمرةُ لا بُدَّ مِنْ أن تُفضي إلى القتالِ، إنْ منَعَهم المُشركُونَ، فكانَتْ عمرةً وجهاداً، فاجتمعَ فيها المعنيانِ؛ فلا جَرَم، قال تعالى { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ }.

قوله تعالى: { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ }.

في هذه الباء ثلاثة أوجه:

أحدها: أنها زائدةٌ في المفعول به؛ لأن " أَلْقَى " يتعدَّى بنفسه؛ قال تبارك وتعالىفَأَلْقَىٰ مُوسَىٰ عَصَاهُ } [الشعراء: 45]، وقال القائل: [الكامل]
976 - حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَداً فِي كَافِرٍ   وَأَجَنَّ عَوْرَاتِ الثُّغُورِ ظَلاَمُهَا
فزيدت الباءُ في المفعول، كما زيدَت في قوله: [الطويل]
977 - وَأَلْقَى بِكَفَّيْهِ الْفَتَى اسْتِكَانَةً   مِنَ الْجُوعِ وَهْنَاً مَا يُمِرُّ وَمَا يَحْلُو
وهذا قولُ أبي عبيدة، وإليه ميلُ الزمخشري، قال: " والمعنى: ولا تُقْبِضُوا التهلُكَةَ أيدِيكُمْ، أي لا تَجْعَلُوها آخِذَةً بأيديكُمْ مالكةً لكُمْ " ، إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادة الباء في المفعول به لا تَنقاسُ، إنما جاءت في الضَّرورة؛ كقوله: [البسيط]

السابقالتالي
2 3 4 5