الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }

" الصِّيَام ": مفعولٌ لم يسمَّ فاعله، وقدَّم عليه هذه الفضلة، وإن كان الأصل تأخيرها عنه؛ لأن البداءة بذكر المكتوب عليه آكد من ذكر المكتوب لتعلُّق الكتب بمن يؤدي، والصِّيام مصدر صام يصوم صوماً، والأصل: " صِوَاماً " ، فأبدلت الواو ياء، والصَّوم مصدر أيضاً، وهذان البناءان - أعني: فعل وفعال - كثيران في كلِّ فعل واويِّ العين صحيح اللام، وقد جاء منه شيءٌ قليلٌ على فعولٌ؛ قالوا: " غَارَ غُوُوراً " ، وإنما استكرهوه؛ لاجتماع الواوين، ولذلك همزه بعضهم، فقال: " الغُئُور ".

قال أبو العباس المقرئ: وقد ورد في القرآن " كَتَبَ " بإزاء أربعة معانٍ:

الأول: بمعنى فرض؛ قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمْ ٱلصِّيَامُ } ، أي: فُرِضَ.

الثاني: بمعنى قضى؛ قال تعالى:كَتَبَ ٱللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِيۤ } [المجادلة: 21]، ومثله:قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ ٱللَّهُ لَنَا } [التوبة: 51].

الثالثُ: بمعنى جَعَل؛ قال تعالى:ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } [المائدة: 21]، أي: جعَلَ لكم، ومثله:كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلإِيمَانَ } [المجادلة: 22] أي: جعل.

الرابع: بمعنى أمر؛ قال تعالى:وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } [المائدة: 45]، أي: أمرناهم.

والصيام لغةً: الإمساك عن الشيء مطلقاً، ومنه صامت الرَِّيح: أمسكت عن الهبوب، والفرس: أمسكت عن العدو؛ قال: [البسيط]
928 - وخَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ   تَحْتَ العَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا
وقال تعالى:إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَـٰنِ صَوْمًا } [مريم: 26]، أي: سكوتاً؛ لقوله:فَلَنْ أُكَلِّمَ ٱلْيَوْمَ إِنسِيّاً } [مريم: 26] وصام النهار، اشتدَّ حرُّه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
929 - فَدَعْهَا وَسَلِّ الهَمَّ عَنْهَا بِجَسْرَةٍ   ذَمُولٍ إذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا
وقال: [الرجز]
930 - حَتَّى إذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلْ   وَمَالَ لِلشِّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْ
كأنهم توهَّموا ذلك الوقت إمساك الشمس عن المسير، ومصام النُّجوم: إمساكها عن السَّير؛ قال امرؤ القيس: [الطويل]
931 - كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ في مَصَامِهَا   بَأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إلى صُمِّ جَنْدَلِ
ويقال: بَكْرَةٌ صائمةٌ، إذا قامت فلم تدر.

قال الراجز: [الرجز]
932 - وَالبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَهْ   
وفي الشَّريعة: هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات؛ حال العلم بكونه صائماً، [مع اقترانه بالنِّيَّة].

قوله: " كَمَا كُتِبَ " فيه خمسة أوجه:

أحدها: أن محلّها النصب على نعت مصدر محذوف، أي: كتب كتباً؛ مثل ما كتب.

الثاني: أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة، أي: كتب عليكم الصِّيام الكَتْبَ مشبهاً ما كتب، و " ما " على هذين الوجهين مصدريةٌ.

الثالث: أن يكون نعتاً لمصدر من لفظ الصيام، أي: صوماً مثل ما كتب، فـ " ما " على هذا الوجه بمعنى " الذي " ، أي: صوماً مماثلاً للصوم المكتوب على من قبلكم، و " صوماً " هنا مصدر مؤكِّد في المعنى؛ لأن الصِّيام بمعنى: " أنْ تَصُوموا صَوْماً " قاله أبو البقاء - رحمه الله -، وفيه أن المصدر المؤكِّد يوصف، وقد تقدَّم منعه عند قوله تعالى:

السابقالتالي
2 3