الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَٱلْمَلاۤئِكَةِ وَٱلْكِتَابِ وَٱلنَّبِيِّينَ وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينَ وَٱبْنَ ٱلسَّبِيلِ وَٱلسَّآئِلِينَ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلاةَ وَآتَى ٱلزَّكَاةَ وَٱلْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَٱلصَّابِرِينَ فِي ٱلْبَأْسَآءِ وٱلضَّرَّآءِ وَحِينَ ٱلْبَأْسِ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ }

قرأ الجُمْهُور برفع " البِرُّ " وحمزة، وحفصٌ عن عاصم بنصبه، فقراءةُ الجُمْهُور على أنَّه اسمُ " لَيْسَ " و " أَنْ تُولُّوا " خبرها في تأويل مصدَرٍ، أي: ليس البِرُّ تَوْلِيَتكُمْ، ورجِّحت هذه القراءةُ مِنْ حيث إنَّه ولي الفعل مرفوعة قَبْل منصوبه، وأَمَّا قراءة حمزة وحَفْصٍ فـ " البرُّ " خبرٌ مقدَّمٌ، و " أَنْ تُوَلُّوا " اسمُها في تأويل مصدرٍ، ورجِّحت هذه القراءة بأنَّ المصدر المؤَوَّل أعرفُ من المحلَّى بالألف واللام؛ لأنَّهُ يشبه الضَّمير، من حيث إِنَّهُ لا يوصَفُ؛ ولا يوصف به، والأعْرَفُ ينبغي أنْ يُجْعَل الاسْمَ وغيْر الأعْرَفِ الخَبَرَ؛ وتقديمُ خَبَر " لَيْسَ " على اسمها قليلٌ؛ حتى زَعَم منْعَهُ جماعةٌ [منْهم ابنُ دَرَسْتَوَيْهِ، قال: لأنَّها تشبه " مَا " المجازيَّة ولأَنَّها حرفٌ على قول جماعةٍ، لكنه] محجوج بهذه القراءة المتواترة، وبقول الشاعر [الطويل]
910 - سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ   فَلَيْسَ سَوَاءً عَالِمٌ وَجَهُولُ
وقال آخر: [الطويل]
911 - أَلَيْسَ عَظِيماً أَنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ   وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِي الخُطُوبِ مُعَوَّلُ
وفي مصحف أُبَيٍّ، وعبْد الله " بِأَنْ تُوَلُّوا " بزيادةِ الباء، وهي واضحة؛ فإن الباء تزادُ في خبر " لَيْسَ " كثيراً.

فصل في الاختلاف في أصل ليس

الجمهُور على أن " لَيْسَ " فعلٌ وقال بعضُهُمْ إنه حرفٌ حجَّة القائلين بأنَّها فعلٌ:

اتصالُ الضمائر بها الَّتي لا تتصلُ إلاَّ بالأَفْعال؛ كقَولك، " لَسْتُ، ولَسْنَا، ولَسْتُمْ " ، و " القَوْمُ لَيْسُوا قَائِمِينَ " ، وهذا منقوضٌ بقوله: " إِنَّنِي، ولَيْتَنِي، ولَعَلَّني ".

وحجَّة مَنْ قال بأنَّهَا حرفٌ أمور:

الأوَّل: أنَّها لو كانت فعلاً، لكانت فعلاً ماضِياً ولا يجوزُ أن تكون فعلاً ماضياً؛ لاتفاق الجمهُور على أَنَّهُ لِنَفي الحالِ، والقائلُونَ بأَنَّه فعْلٌ قالوا: إنه فعْلٌ ماضٍ.

وثانيها: أَنَّهُ يدخلُ على الفعْلِ، فنقول: " لَيْسَ يَخْرُجُ زَيْدٌ " ، والفعلُ لا يدخُلُ على الفعْل عَقْلاً ونقلاً.

وقولُ مَنْ قال: " إن لَيْسَ " داخلٌ على ضمير القصَّة، والشأن، وكونُ هذه الجملةِ تفسيراً لذلك الضَّمير ضعيفٌ؛ فإنَّهُ لو جاز ذلك، جاز مثلُه في " مَا ".

وثالثها: أَنَّ الحرف " مَا " يظهرُ في معنَاهُ في هذه الكَلِمَة، فإنك لَو قُلْتَ: " لَيْسَ زَيْدُ " لم يتمَّ الكلام، لا بُدَّ أن تقول: " لَيْسَ زَيْدٌ قَائِماً ".

ورابعُها: أن " لَيْسَ " لو كان فعْلاً، لكان " ما " فعلاً، وهذا باطلٌ، فذاك باطلٌ، بيان الملازمةِ: ان " لَيْسَ " لو كان فعْلاً لكان ذلك لدلالَتِهِ على حُصُول معنى السَّلْب مقترناً بزمان مخْصُوصٍ، وهو الحالُ، وهذا المعْنَى قائمٌ في " مَا " فيجبُ أن تكونَ " مَا " فعْلاً، فلَمَّا لم يكُنْ هذا فعْلاً، فكذلك القَوْل في ذلك أو تكون في عبارةٍ أُخْرَى: " لَيْسَ " كلمةٌ جامدةٌ، وضعت لنَفْي الحالِ، فأشبهت " مَا " في نفْي الفعليَّة بذلك.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8 9 10  مزيد