الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلاَلَةَ بِٱلْهُدَىٰ وَٱلْعَذَابَ بِٱلْمَغْفِرَةِ فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ } * { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ نَزَّلَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِي ٱلْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ }

اعلم أنَّ أَحْسَنَ الأشياء في الدُّنيا الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضَّلال والجَهْل فَلَمَّا تركُوا الهُدَى في الدُّنيا، ورضُوا بالضَّلال والجهل، فلا شَكَّ أَنَّهُمْ في نهاية الخَسَارة في الدنيا، وَأَمَّا في الآخرة، فأحسن الأشياء المَغْفِرة، وأخْسَرُها العذَابُ، فَلَمَّا صرفوا المغفرة، ورضُوا بالعَذَاب، فلا جَرَم: أنهم في نهاية الخَسَارة، ومَنْ كانت هذه صفتَهُ، فهو أعْظَمُ النَّاس خسارةً في الدُّنيا والآخِرَة.

قولُهُ { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ } في " ما " هذه خمسةُ أقْوالٍ:

أحدها: وهو قول سيبويه، والجُمهُور: أَنَّها نكرةُ تامَّةُ غير موصُولة، ولا موصوفةٍ، وَأَنَّ معناها التعجُّب، فإذَا قُلْتَ: " مَا أَحْسَنَ زَيْداً " ، فمعناهُ: شيءٌ صَيَّرَ زَيْداً حَسَناً.

الثاني: قولُ الفراء - رحمه الله تعالى - أَنَّهَا استفهاميَّةٌ صَحِبَها معنى التعجُّب؛ نحو " كَيْف تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ".

قال عطَاءٌ، والسُّدِّيُّ: هو " ما " الاستفهام، معناه: ما الَّذي صَبَّرهم على النَّار؟ وأيُّ شيء صَبَّرهم على النَّار؛ حتى تَرَكُوا الحَقَّ، واتبعوا البَاطِلَ.

قال الحَسَن، وقَتادة: " والله ما لهم عَلَيْها من صَبْر، ولكنْ ما أجرأهم على العمل الَّذي يقرِّبهم إلى النار " وهي لغة يَمَنية معروفةٌ.

قال الفراء: أخبرني الكسائيُّ قال: أخبرني قاضي " اليَمَنِ " أَنَّ خَصْمَينِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فوجَبَتِ اليمينُ على أحدهِمَا، فحلَفَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: ما أصْبَرَكَ عَلَى اللَّهِ؟ أي: ما أجرأك عليه.

وحكى الزَّجَّاجُّ: ما أبقاهُمْ على النَّار، من قولِهِم: " مَا أَصْبَرَ فُلاَناً على الحَبْس " ، أي: ما أبقاهُ فيه.

والثالث: ويُعْزَى للأخفش [أَنَّهَا موصُولةٌ.

الرابع: ويُعْزَى له أيضاً: أنها نكرةٌ موصوفةٌ وهي على الأقوال الأربعة في مَحَلِّ رفع بالابتداءِ، وخبرها على القَوْلين الأولَيْن: الجملةُ الفعليَّة بعدَها، وعلى قوْلي الأخْفَش]: يكون الخبر مَحذوفاً فإنَّ الجملة بعدها إما أن تكون صلةً، أو صفةً وكذلك اختلفُوا في أفْعَل الواقع بعدها، أهو اسمٌ؟ وهو قول الكوفيِّن، أم فعل؟ وهو الصحيحُ، ويترتَّب على هذا الخلاَفِ خلافٌ في نصْب الاسْمِ بعده، هَلْ هو مفعولٌ به، أو مشبَّه بالمعفول به، ولكلٍّ مِنَ المذْهَبَين دلائلُ، واعتراضات وأجوبةٌ ليس هذا موضعها.

والمراد بالتعجُّب هنا، وفي سائر القُرْآن: الإعلامُ بحالهم؛ إنَّها ينبغي أنْ يتعجَّب منها، وإلا فالتعجب مستحيلٌ في حقِّه تعالى، ومعنى عَلَى النَّارِ، أي: على عمل أهْل النار، قاله الكِسَائيُّ، وهذا من مجاز الكَلاَمِ.

الخامس: أنَّها نافيةٌ، أَي: { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى ٱلنَّارِ }. نقله أَبُوا البقاء

قوله تعالى: { ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ }: اختلفُوا في مَحَلِّ: " ذَلِكَ " من الإعراب فقيل: رفعٌ، وقيل: نَصْبٌ والقائلُونَ بأنَّه رفْعٌ، اختلفوا على ثلاثة أقْوَال.

أحدها: أَنَّهُ فاعلٌ بفعلٍ محذوف، أي: وجب لَهُمْ ذلك.

الثاني: أن " ذَلِكَ " مبتدأٌ، و " بِأَنَّ اللَّهَ " خبره، أي: ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أنزل الله في القرآن من استحقاق عَذَاب الكَافِرِ.

السابقالتالي
2 3