الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ ٱللَّهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }

قال ابن عبَّاس: نزلَت في رؤوس اليهود: كعبِ بنِ الأَشْرفِ وكعْبِ بن أسدٍ، ومالك بنِ الصيف، وحُييِّ بن أخطَبَ، وأبي ياسرِ بنِ أخطَبَ؛ كانوا يأخذون من أتباعهم الهَدَايا، وكانُوا يَرجُون أن يكُونَ النبيُّ المَبْعُوثُ منهم، فلما بُعِثَ محمَّدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام من غيرهم خافُوا انقطَاع تلك المنافِع؛ فكتموا أمر مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم بأنْ غيَّروا صِفَتَه، ثم أخرَجُوها إليهم، فإذا ظَهَرت السفلة على النَّعتِ المغيَّر، وجدوه مخالفاً لصفتِهِ صلى الله عليه وسلم، لا يتبعونَه، فأنزل الله تبارَكَ وتعالى هذه الآية.

قال القرطبيُّ: ومعنى " أَنْزَلَ ": أظْهَرَ؛ كما قال تعالى:وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ ٱللَّهُ } [الأنعام: 93] أي: سأُظْهِر وقيل: هو على بابِهِ من النُّزول، أي: ما أَنْزَل به ملائكتَهُ على رُسُله.

قوله: " مِنَ الْكِتَابِ ": في محلِّ نصْبٍ، على الحال، وفي صاحبها وجهان:

أحدهما: أَنَّهُ العائِدُ على الموصول، تقديره: " أَنْزَلَهُ اللَّهُ " حال كونه " مِنَ الكِتَابِ " فالعاملُ فيه " أَنْزَلَ ".

والثاني: أنه المُوصول نَفسُه، فالعامل في الحال " يَكْتُمُونَ ".

قوله: " وَيَشْترونَ بِهِ ": الضميرُ في " بِهِ " يُحْتَمَل أن يعود على " ما " الموصولة، وأن يعودَ على الكَتْم المفهومِ من قوله: " يَكْتُمُونَ " ، وأَنْ يعودَ على الكتابِ، والأَوَّلُ أَظهَرُ، ويكونُ ذلك على حَذْف مضافٍ، أي: " يَشْتَرونَ بِكَتْم ما أَنْزَلَ ".

قال ابنُ عَبَّاس - رضي الله عنه - وقتادَةُ والسُّدِّيُّ، والأصَمُّ وأبو مُسْلِمٍ - رضي الله عنهم - كانوا يكتُمُونَ صفَةَ محمَّدٍ - عيله الصَّلاة والسَّلام - ونَعْتَهُ.

وقال الحسَنُ: كَتَمُوا الأَحْكَام، وهو قولهُ تبارَكَ وتعالى:إِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلأَحْبَارِ وَٱلرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلنَّاسِ بِٱلْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ } [التوبة: 34].

فصل في حقيقة الكتمان

اختلفوا في كيفيَّة الكتمان.

فروي عن ابن عبَّاس أَنَّهُم كانُوا يحرِّفون ظاهِرَ التَّوراةِ، والإنجيلِ.

قال المتكلِّمون: وهذا ممتنعٌ؛ لأنَّ التوراة والإنجيل كتابانِ، وقد بلغا من الشهرة إلى حدِّ التواتر؛ بحيث يتعذّر ذلك فيهما، وإِنَّما كانوا يكتُمُونَ التأويلَ، لأن‍َّه قَدْ كان منهم مَنْ يعرف الآياتِ الدالَّةَ على نبوة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - وكانوا يذكُرُون لها تأويلاتٍ باطلةً، ويحرِّفونها عن محامِلها الصحيحة، والدَّالَّةِ على نبوَّة محمَّد - صلى الله عليه وسلم - فهذا هو المرادُ من الكتْمَان، فيصير المعنى: الذين يكْتُمُون معاني ما أنزَلَ الله منَ الكتاب.

{ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } كقوله تعالى:وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَٰتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [البقرة: 41] لأنَّه في نفسه قليلٌ ولأنَّه بالإضافة إلى ما فيه من القدر قليلٌ، ولما ذكر عنهم هذه الحكاية، ذكر الوعيدَ عليهم؛ فقال: { أُولَـٰئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ ٱلنَّارَ }.

السابقالتالي
2 3