لما أمر في الآية المتقدِّمة بأكل الحال، فصَّل في هذه الآية [أنواع] الحرام. قوله: " إنَّمَا حَرَّمَ ": الجمهور قرءوا " حَرَّمَ " مشدَّداً مبنيّاً للفاعل " المَيْتَة " نصباً على أنَّ " مَا " كافَّةٌ مهيِّئة لـ " إنَّ " في الدُّخول على هذه الجملة الفعليَّة، وفاعل " حَرَّمَ " ضمير الله تعالى، و " المَيْتَةَ ": مفعولٌ به، وابن أبي عَبْلَة برفع " المَيْتَةُ " ، وما بعدها، وتخريج هذه القراءة سهل وهو أن تكون " مَا " موصولةً، و " حَرَّمَ " صلتها، والفاعل ضمير الله تعالى والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشُّروط، تقديره: " حَرَّمَهُ " ، والموصول وصلته في محلِّ نصب اسم " إنَّ " ، و " الميتة ": خبرها. وقرأ ابو جعفر، وحمزة مبنيّاً للمفعول، فتحتمل " ما " في هذه القراءة وجهين: أحدهما: أن تكون " ما " مهيئةً، و " المَيْتَةُ " مفعول ما لم يسمَّ فاعل. والثاني: أن تكون موصولةً، فمفعول " حُرِّمَ " القائم مقام الفاعل ضميرٌ مستكنٌّ يعود على " ما " الموصولة، و " لميتة " خبر " إنَّ ". وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ، " حَرُمَ " ، بضمِّ الراء مخفَّفة، و " المَيْتَةُ " رفعاً و " مَا تحتمل الوجهين أيضاً، فتكون مهيِّئة، و " المَيْتَةُ "؛ فاعلٌ بـ " حَرُمَ " ، أو موصولةً، والفاعل ضميرٌ يعود على " مَا " وهي اسمُ " إنَّ " ، و " المَيْتَة ": خبرها، والجمهور على تخفيف " المَيْتَة " في جميع القرآن، وأبو جعفر بالتَّشديد، وهو الأصل، وهذا كما تقدَّم في أنَّ " الميْت " مخفَّفٌ من " المَيِّت " ، وأن أصله " مَيْوِتٌ " ، وهما لغتان، وسيأتي تحقيقه في سورة آل عمران عند قوله:{ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ } [آل عمران: 27]. ونقل عن قدماء النحاة، أنَّ " المَيْتَ " بالتَّخفيف: من فارقت روحه جسده، وبالتشديد: من عاين أسباب الموت، ولم يمت، [وحكى ابن عطيَّة - رحمه الله - عن أبي حاتم: أنَّ ما قد مات فيقالان فيه، وما لم يَمُتْ] بعد، لا يقال فيه بالتخفيف، ثم قال: ولم يقرأ أحدٌ بتخفيف ما لم يمت إلا ما روى البزِّيُّ عن ابن كثير:{ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [إبراهيم: 17]، وأما قوله: [الوافر]
900 - إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمٍ
فَسَرَّكَ أنْ يَعِيشَ فَجِىءْ بِزَادِ
فقد حمل على من شارف الموت، وحمله على الميِّت حقيقةً أبلغ في الهجاء. وأصل " مَيْتَةٍ " مَيْوِتَةٌ، فأُعلَّت بقلب الواو ياء، وإدغام الياء فيها، وقال الكوفيُّون: أصله " مَوِيتٌ " ، ووزنه " فَعِيلٌ ".