الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّآ أَضَآءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ ٱللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَٰتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ }

اعلم أن المقصود من ضرب المِثَال أنه يؤثر في القَلْبِ ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، وذلك لأن الغرض من المَثَلِ تشبيه الخَفِيّ بالجَلِيّ والغائب بالشاهد، فيتأكّد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل، وذلك هو النهاية في الإيضاح في الترغيب في الإيمان لذا مثل بالظّلمة، فإذا أخبرت عن ضعف أمر ومثّلته بِنَسْجِ العنكبوت كان ذلك أبلغ في وقعه في القلب بالخبر مجرداً.

قوله: " مثلهم " مبتدأ و " كمثل " جار ومجرور خبره، فيتعلّق بمحذوف على قاعدة الباب، ولا مُبَالاة بخلاف من يقول: إنّ " كاف " التشبيه لا تتعلّق بشيء، والتقدير: مثلهم مستقر كَمَثَلِ. وأجاز أبو البقاء وابن عطية أن تكون " الكاف " اسماً هي الخبر، ونظيره قول الشاعر: [البسيط].
220- أَتَنْتَهُونَ؟ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ   كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ والفُتُلُ
وهذا مذهب الأخفش: يجيز أن تكون " الكاف " اسماً مطلقاً.

وأما مذهب سيبويه فلا يُجِيزُ ذلك إلا في شعر، وأمّا تنظيره بالبيت فليس كما قال؛ لأنّ في البيت نضطر إلى جعلها اسماً لكونها فاعلة، بخلاف الآية.

والذي ينبغي أن يقال: إن " كاف " التشبيه لها ثلاثة أحوال:

حال يتعيّن فيها أن تكون اسماً، وهي ما إذا كانت فاعلة، أو مجرورة بحرف، أو إضافة. مثال الفاعل: [البسيط]
221- أَتَنْتَهُونَ وَلَنْ يَنْهَى..........   .......................
البيت.

ومثال جَرِّها بحرف قول امرىء القَيْسِ: [الطويل]
222- وَرُحْنَا بكَابْنِ المَاءِ يُجْنَبُ وَسْطَنَا   تَصَوَّبُ فِيهِ العَيْنُ طَوْراً وَتَرْتَقِي
وقوله: [الوافر]
223- وَزَعْتُ بِكَالْهِرَاوَةِ أَعْوَجِيٍّ   إذَا وَنَتِ الرِّكَابُ جَرَى وَثابَا
ومثال جَرِّها بالإضافة قوله: [السريع أو الرجز]
224- فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ   
وحال يتعيّن أن تكون فيها حرفاً، وهي الواقعة صلة، نحو: جاء الذي كزيد؛ لأن جعلها اسما يستلزم حذف عائد مبتدأ من غير طول الصِّلة، وهذا ممتنع عند البصريين. وحال يجوز فيها الأمران، وهي ما عدا ذلك نحو: " زيد كعمرو ".

وأبعد من جعلها زائدة في الآية الكريمة، أي: مثلهم مثل الذي، ونظّره بقوله: " فَصُيِّرُوا مثل كعصف " كأنه جعل المثل والمثل بمعنى واحد، والوجه أن المثل - هنا - بمعنى القصّة والتقدير: صفتهم وقصتهم كقصّة المستوقد، فليست زائدةً على هذا التأويل، وهذا جواب عن سؤال أيضاً، وهو أن يقال: قوله تعالى: { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ ٱلَّذِي ٱسْتَوْقَدَ } يقتضي تشبيه مثلهم مثل المستوقد، فما مثل المنافقين ومثل المُسْتَوْقِدِ حتّى شَبّه أحدهما بالآخر؟

فالجواب: أن يقال: استعير المثل للقصّة وللصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل: قصّتهم العجيبةُ كقصّة الذي استوقد ناراً، وكذا قوله:مَّثَلُ ٱلْجَنَّةِ ٱلَّتِي وُعِدَ ٱلْمُتَّقُونَ } [الرعد: 35] أي فيما قصصنا عليه من العَجَائب قصّة الجنّة العجيبة.

وَلِلَّهِ ٱلْمَثَلُ ٱلأَعْلَىٰ } [النحل: 60] أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة.

السابقالتالي
2 3 4 5 6 7 8