الرئيسية - التفاسير


* تفسير اللباب في علوم الكتاب/ ابن عادل (ت 880 هـ) مصنف و مدقق


{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ }

قال القفال [رحمه الله:] هذا متعلق بقوله تعالى:وَٱسْتَعِينُواْ بِٱلصَّبْرِ وَٱلصَّلَٰوةِ } [البقرة: 45] فإنما نبلوكم بالخَوْفِ وبكذا، وفيه مسائِلُ.

فإن قيل: إنه تعالى قال:وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [البقرة: 152] والشكرُ يوجب المزيدَ، لقوله:لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } [إبراهيم: 7] فكيف أردَفَهُ بقوله: { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوفْ }؟.

[قال ابن الخطيب]: والجواب من وَجْهَيْنِ:

الأولُ: أنه - تعالى - أخبر أَنَّ إكمَالَ الشرائعِ إتمامُ النعمةِ، فكأنه كذلك موجباً للشُّكْرِ، ثم أَخبر أن القيامَ بتلك الشرائع لا يُمْكِن إِلا بتحمّل المِحَن، فلا جَرَمَ أمر فيها بالصَّبْر.

الثاني: أنه - تبارك وتعالى - أَنْعَم أولاً فأَمَر بالشكْر، ثم ابْتَلَى وأمر بالصَّبْرِ، لينال [الرجل] درجةَ الشاكرِين وَالصَّابِرينَ مَعاً، فيكمل إيمانُهُ على ما قال عليه الصلاة والسلام: " الإِيْمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ، وَنِصْفٌ شُكْرٌ "

قال بعضَهم: الخطابُ لجميع أُمَّةِ محمد صلى الله عليه وسلم.

وقال عَطاءٌ والرَّبِيعُ بنُ أَنس: المرادُ بهذه المخاطبةِ أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الهِجْرة وهذا الابتلاءُ لإِظْهَارِ المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً، ولم يَكُنْ عَالِماً به، وقد يُطْلق الابتلاءُ على الأَمانةِ؛ كهذه الآية الكريمةِ، والمعنى: وليصيبنكُم اللَّهُ بشيْءٍ من الخوف، وقد تقدَّم الكلامُ فِيه، في قوله تعالى:وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } [البقرة: 124].

وفي حكمة هذا الابتلاء وجوه:

أَحَدُهما: ليوطِّنُوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت، فيكُونُ ذلك أبعدَ لهم من الجَزَعِ، وأَسْهَل عليهم بعد الورُود.

وثَانِيهَا: أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المِحَن، اشتَدَّ خَوْفُهم فيصير ذلك الخوفُ تَعْجِيلاً للابتلاءِ،فيستحِقُّون به مزيدَ الثَّوابِ.

وثَالِثُها: أن الكفارَ إذا شاهدوا محمداً وأصحَابَهُ مقِيمينَ على دينهم مُسْتقرّين عليه، مع ما كانوا عليه منْ نِهَاية الضر والمِحْنَةِ والجُوعِ، يَعْلَمُونَ أن القومَ إِنَّما اختاروا هذا الدِّينَ لقطْعِهم بصحّته، فيدعُوهم ذلك إِلى مَزِيد التأمّل في دَلاَئِله.

ومن المعلُوم الظَّاهِر أَنَّ التَّبَعَ إذا عَرَفُوا أن المتبوعَ في أَعْظَم المِحنَ بسبب المذهب الذي ينصرُه، ثم رأوه مع ذلك مُصِرّاً على ذلك المذهب كان ذلكَ أَدْعَى لهم إلى اتَّباعِه مما إذا رأوه مُرَفّه الحَالِ، لا كُلْفة عليه في ذلك المذهب.

ورَابِعُهَا: أنه تعالى أخبر بوقوُع ذلك الابتلاءِ قَبْل وقُوعِه، فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه، فكان ذلك إخْباراً عن الغَيْب، فكان معجزاً.

وخَامِسُها: أَنَّ من المُنَافِقِينَ مَنْ أَظْهَر متابعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه طمعاً منه في المال، وسعة الرزق، فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق من الموافق؛ لأنَّ المنافِقَ إِذَا سَمِعَ ذلك، نَفَر منه، وتركَ دِينَه، فكانَ في هَذَا الاختبارِ هَذِهِ الفَائِدَةُ.

وسَادِسُها: أن إخلاص الإنسان حالة [البلاء، ورجوعه إلى باب الله تعالى] أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه.

السابقالتالي
2 3